{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}

رقية القضاة

وتتم نعمة الله على المؤمنين ولا يترهم ربّهم أعمالهم، ويسرّهم بآياته الطيبات..

  • التصنيفات: التاريخ الإسلامي - تزكية النفس -


القلوب التي فارقت مكة مُرغَمة يملؤها الحنين إليها، والبشرى تملأ بيوت المدينة المنوّرة، إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتجهّز للعمرة، والبدن تنساب في طريقها آملة أن تبلغ محلّها، وقد ساقها المصطفى وصحبه متوجهين إلى بيت الله الحرام، ولا يملأ القلوب إلّا حنينها، ولا يتقد في الصدور إلا الاشتياق للبيت المحرّم ولا قصد في النفوس إلا أداء العبادة الحبيبة المرتقبة.

وهناك في مكة المكرمة عيون تترقب الطريق وآذان تتسمع أخبار محمد وحقد تتلظى به الصدور، وزعماء قريش يمكرون ألّا يدخلنّها محمد عليهم أبداً، ويهرع منهم نفر يفاوضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، على عبادته، وعلى زيارة بيت الله، وفيهم بديل بن ورقاء من بني خزاعة، يسأل النبي عن مقصده فيجيب أنه لا ينوي حرباً بل عبادةً وطوافاً، وتظل الرسل تباعاً تحاول ثني المسلمين عن عمرتهم، وينتدب الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان في سفارة لأولئك الذين يصدون عن المسجد الحرام؛ ليبلغهم ما يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصل عثمان مكة بعد طول نأي، وتلوح له الكعبة المشرّفة، فيجتاحه الحنين الجارف إليها، وتعرض عليه قريش الطواف بها فيقول: "ما كنتُ لأفعل حتى يطوف رسول الله، وتحبسُه قريش عندها، وتصل الأخبار للنبي وصحابته بأن عثمان قد قُتِل، فيبايع المسلمون رسولهم على الموت في سبيل الله، ويضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بكفه بيعة عن عثمان، فتظلّ بيعة الرّضوان آية تُتلى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح من الآية:18]. 

وتظل بركات الرضى تُظلِّلَهم وتتنسمها الأمة حتى آخر الزمان ويتبيّن المسلمون أنّ عثمان مازال حيّا في مكة، ويقدُم رسل قريش مرّةً أخرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم سهيل بن عمرو، يصدونه عن البيت الحرام، ويضربون له موعداً في العام القادم، على أن يدخل مكة بالسيوف في أغمادها، ويشترطون عليه أن يرجع عنهم عامه هذا، ولم تدري قريش ويا ويح قريش، لم تدري أن الحبيب المصطفى قد قال يومها وقد سمع بعنادهم ورفضهم: «والله لا تسألني قريش اليوم خطة فيها صلة الرّحم إلّا أعطيتهم إيّاها» (رواه الإمام أحمد)، فأي أمة سنكون لو أننا اتبعناك حق الاتباع يا رسول الله؟

وتكون المفاوضة، ثم صلح الحديبية بما فيه من مظاهر الإجحاف بحق النبي وصحبه، ويشتط الغضب لله بعُمَر في ذلك اليوم، فيركض إلى الصدّيق سائلاً، يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين قال: بلى، قال عمر: فعلام نعطي الدنية بديننا؟ فقال الصدّيق: يا عمر الزم غرزه، فإنّي أَشهد أنّه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، فيأتي عمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيسأله ما سأل الصدّيق، فيجيبه المصطفى الحليم الرحيم بأمته: «أنا عبد الله ورسوله، لن أُخالف أَمره ولن يُضيّعني» (رواه البخاري). 

ويعمد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هديه فينحر ويحلق، وذلك حين رأى المسلمين يترددون في النحر والتحلل، وتشير عليه أم سلمة بالمبادرة فيفعل، ويتسابق المسلمون في النحر والتقصير، وقد كظموا غيظهم، واستسلموا لأمر ربهم وأطاعوا نبيهم، وأغاظوا الشيطان بطاعتهم، فأي جيلٍ كنتم أيها الأنقياء.

وتتم نعمة الله على المؤمنين ولا يترهم ربّهم أعمالهم، ويسرّهم بآياته الطيبات، إذ لا تلبث آيات البشارة بالفتح القريب أن تتنزّل على القلب الطاهر؛ لتحيا بها القلوب الطاهرات، وقد قفل النبي صلى الله عليه وسلم عائداً مع أصحابه دون أداء العمرة، وفي القلوب ما فيها من الحزن والانقياد لأمر الله، فينزل قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح:1]، فيقول صلى الله عليه وسلم: «لقد أُنزِلت علي آية هي أحبُّ إليَّ من الدنيا جميعاً» (رواه مسلم)، ولقد كان صلح الحديبية المجحف في ظاهره تمكيناً وعزاً ونصراً في حقيقته، وفتحاً قريباً.

اللهمّ آتنا فتحاً من عندك، وأعزّنا بدينك، وردّنا إليك رداً جميلاً.