طبائع اليهود والنفسية اليهودية

راغب السرجاني

بعد ما تم الاتفاق على بنود المعاهدة بين رسول الله واليهود، لا بد أن نقف وقفة ونسأل: لماذا وافق اليهود على هذه البنود التي في المعاهدة مع أنهم قوة لا يُستهان بها، والمؤمنون أمة في طور الإنشاء؟

  • التصنيفات: التاريخ الإسلامي -


بعد ما تم الاتفاق على بنود المعاهدة بين رسول الله واليهود، لا بد أن نقف وقفة ونسأل: لماذا وافق اليهود على هذه البنود التي في المعاهدة مع أنهم قوة لا يُستهان بها، والمؤمنون أمة في طور الإنشاء؟ اليهود أعداد كبيرة، وسلاح وقلاع واستقرار وتاريخ ومال وأشياء كثيرة جدًّا، إنها قبائل قوية، والدولة الإسلامية ما زالت في طور الإنشاء، لم يعترف بها أحد بعدُ، فلماذا قَبِلَ اليهود بهذه الدنية في المعاهدة؟ لماذا سلموا رقابهم لرسول الله وللمؤمنين معه مع قوتهم؟

والإجابة في النقاط التالية:
1. الجبن من طبائع اليهود:
في طبيعة اليهود الجبن الشديد، والله ذكر ذلك في أكثر من موضع في كتابه الكريم: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]، وقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96]. أيّ حياةٍ! إذًا أول سبب أن من فطرة اليهود الجبن الشديد، وهذا أمر لا بد أن نعرفه جيدًا في تعاملنا مع اليهود.

2. الوحدة بين المسلمين:
وهو الأمر الموازي للسبب الأول؛ فهذا الجبن الشديد من جهة اليهود لو قُوبِل بجبن أكبر من المسلمين فسترجح الكفة لصالح اليهود، لكن على العكس كان الرسول يقف في صلابة وفي قوة وفي بأس واضح، ومعه مجموعة من المؤمنين على قلب رجل واحد، وحدة المسلمين هي القوة التي وقف بها الرسول في مواجهة اليهود، والثبات على المبدأ، وتسابق الصحابة بشتى طوائفهم (أوسهم وخزرجهم، ومهاجريهم -من مكة المكرمة ومن غيرها-) على السمع والطاعة لقائد واحد وزعيم واحد بمنهج واحد، كان له أثر كبير في إيقاع الرهبة في قلوب اليهود.

3. الفرقة بين طوائف اليهود:
الفُرقة الشديدة بين فرق اليهود، فنحن نتكلم عن اليهود وكأنهم فريق واحد، ولكن الواقع أن بني قينقاع غير بني النضير، وهذان غير بني قريظة وهكذا.. كل فرقة منهم مختلفة، بل بالعكس بينهم عداوات مريرة، والله قال ذلك في كتابه: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]. أي إذا نظرت من بعيد تحسب أن دولة اليهود موحدة، بنو قريظة كانت تحالف الأوس، وبنو قينقاع وبنو النضير كانا يحالفان الخزرج؛ لذلك كانوا عندما تقوم حرب بين الأوس والخزرج تشتعل حرب أخرى بين بني قريظة من ناحية وبني قينقاع وبني النضير من ناحية أخرى، هكذا يتضح الخلاف الشديد بينهم، ورسول الله يعلم ذلك الأمر، وقال كلماته الشديدة في معاهدته بقوة، وهو يعلم أن اليهود لن يجتمعوا أبدًا على قلب رجل واحد بنص كلام رب العالمين.

4. خوف اليهود على مصالحهم:
وهذا أمر مهم، وهو أن اليهود قبلوا بهذه التنازلات حفاظًا على مصالحهم؛ فهم لا يريدون الدخول في مواجهات مع الأوس والخزرج؛ لأنهم لو دخلوا في مواجهة مع الأوس والخزرج فلمن سيبيعون إذن؟ إن الذي يشتري منهم في الأساس هم أهل المدينة، فلو حدثت حرب بينهم وبين الأوس والخزرج ضاعت التجارة اليهودية، فالتجارة والمال هما عصب حياة اليهود، إنهم يحرفون الكتاب، ويخونون العهود، ويغيرون المواثيق من أجل حفنة من المال، والله يقول عنهم في كتابه العزيز: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:161]، إذًا من أجل المال، ومن أجل أن يستمر الاقتصاد اليهودي في العمل، وفي الإنتاج وفي البيع لا بد أن يعاهدوا أولئك القوم، والرسول يعرف جيدًا أن المصالح اليهودية في أيدي المسلمين.

5. الرهبة في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين:
الرهبة الشديدة التي تقع في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، وهذا أمر ليس له أسباب مادية، فهو جندي من جنود الرحمن، قال الله: {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2]، بدون أي مبررات مادية يقع الرعب في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، بشرط أن يكونوا مؤمنين حقًّا، والله وعد أن ينصر من نصره، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ» (صحيح البخاري). أي أنه قبل أن يلتقي رسول الله بعدوه بشهر يكون العدو قد امتلأ رعبًا وفزعًا، مع أن الفارق في القوة المادية كبيرٌ ولصالح العدو من حيث الأعداد والعتاد والحصون والقلاع والتاريخ وأمور كثيرة في صالح العدو، ومع ذلك يقع الرعب في قلوبهم؛ لأن الله هو الذي يقذف الرعب في قلوبهم.

إذُا لهذه الأمور فإن اليهود عندما جلسوا على طاولة المفاوضات مع الرسول دبَّ الرعب في قلوبهم من اللحظة الأولى؛ فقبلوا بهذه الشروط؛ لذا فعندما ترى بأس اليهود وقوتهم على المسلمين في أزمان أخرى فاعلم أن المسلمين خالفوا شرع ربهم؛ ولذلك هانوا على الله، فهانوا على اليهود وعلى غيرهم من الناس، عندها تجد خمسة أو ستة ملايين يهوديّ يُمْلون قراراتهم على أكثر من مليار من المسلمين، وهذا بالطبع ميزان مقلوب، وسببه ليس قوة اليهود، بل ضعف المسلمين، ولا بد أن يعود المسلمون إلى أصولهم حتى يستردوا مجدهم وعزتهم.

لا بد للحق من قوة تحميه:
هذه القاعدة من الأهمية بمكان، فإذا كنت مُعاهِدًا لليهود فلا بد أن تكون لك قوة تحميك، فليس من الحكمة مطلقًا أن تعاهد اليهود -حتى لو كانت كل البنود شرعية- دون أن يكون لك قوة مخوفة لليهود؛ لأن من طبيعة اليهود التمرد والمخالفة ونقض العهود، ولو لم يكن لديك قوة فما أيسر المخالفة عندهم، استمع إلى كلام الله عنهم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].

سنفترض أن اليهود خالفوا المعاهدة مخالفة صريحة جدًّا، ماذا ستفعل؟
هل ستكتفي بالشجب والإدانة والصراخ والولولة ولطم الخدود؟ إن هذا لا يصلح مع موازين القوى العالمية؛ لأن المعاهدات مع اليهود تحتاج إلى قوة وشجاعة، وإلى نظر في سيرة الرسول وكيفية معاملته لليهود، تحتاج إلى تحديد كيفية التصرف مع اليهود لو خالفوا.

ورغم وفاء المسلمين بالعهد إلا أن اليهود بدءوا في التحرُّش بالمسلمين، وكعادتهم دائمًا يكون التحرش بصورة غير مباشرة، أي أنهم يدفعون غيرهم لتحقيق أهدافهم دون أن يكون لهم ظهور واضح في الأمر، فماذا فعلوا؟

هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.