الفرق بين بيت الله الكعبة وسائر الجامعات المختلطة

إبراهيم الأزرق

وماذا في الاختلاط بالجامعات؟ أليس هو حاصل في كذا وفي كذا وعند بيت الله؟

  • التصنيفات: العلاقة بين الجنسين -

مقدمة:
الحمد لله رب العالمين وبعد فقد اضطرني لاختيار هذا العنوان بعض المساكين الذين ضعفت عقولهم حتى بات بعضهم لا يفرق بينهما فيما يظهر! فيقولون: وماذا في الاختلاط بالجامعات؟ أليس هو حاصل في كذا وفي كذا وعند بيت الله؟
ولهؤلاء أقول: إن الاختلاط إذا أطلق -عن بعض أو كل قيود الشريعة- محرم عند أهل العلم من حيث الأصل، ومن أدلة ذلك أمر النساء بالقرار في البيوت(1)، مع منع الرجال من الدخول عليهن(2)، وقوله صلى الله عليه وسلم «المرأة عورة» (3)، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام: «فاتقوا النساء» (4)، وقصة سالم مولى حذيفة والتحرج من دخوله على سهلة رضي الله عنهم مع تبنيه ونشوئه في حجر حذيفة زوجها(5)، إلى غير ذلك من الأدلة التي جمعها بعض أهل العلم في رسائل ومؤلفات مستقلة ولا يتسع المقام لسردها فضلاً على بيان أوجه دلالتها(6).

الاختلاط المقيد:
غير أن من المقرر كذلك عندهم جواز خروج النساء مع الرجال وذلك خلافاً للأصل، إن تُقيد بضوابط الشريعة، فعندها يجوز أَيْنَ كان عند الكعبة أو غيرها، ومن الضوابط الشرعية التي كان عليها الشأن في العهد الأول -والذي يستدل به بعض الملبسين على الاختلاط المطلق من قيود الشريعة المعاصر، ولا يلتزمون الضوابط التي كانت مرعية عند الصحابة رضوان الله عليهم- ما يلي:
1- وجود الضرورة أو الحاجة المقتضية لخروج النساء واختلاطهن بالرجال سواء أكانت هذه الحاجة دينية كشهود الجماعات أو دنيوية كشراء ما يلزمها شراؤه، فإن لم تكن ثمة ضرورة أو حاجة فلا تقر مخالفة كائنة من كانت لأمر ربها الرحمن: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ[الأحزاب:33]، وقد فسر إمام التفسير مجاهد التبرج هنا بما دل عليه صدر الآية فقال: "كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية الأولى"(7)،  وقد استدل بالآية أئمة التفسير كالقرطبي وغيره على أن المرأة تلزم بيتها لاتخرج منه إلاّ لضرورة، قال الجصاص: "وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت، منهيات عن الخروج"(8)، وقال ابن العربي المالكي رحمه الله: "قوله تعالى: { وَقَرْنَ فِي بيُوتكُنَّ} يعني اسكُنَّ فيها ولا تتحرَّكن، ولا تبرحن منها"(9). فمن خالفت أمر ربها فقد أتت ذنباً، قد يعتذر لها فيه لكن لا يحتج بفعلها. وهنا قد يقول قائل إن التعليم حاجة معتبرة شرعاً، وجوابه إجمالاً بالتسليم غير أن الجامعات غير المختلطة كثيرة، وإنشاء واحدة رائدة للنساء هو مقتضى العدل، أما افتعال الضرورة فلا يجوز، وأهل العلم لا يطالبون بإلغاء التعليم، ولكن يطالبون بحظر الاختلاط إذ لا حاجة له توجبه وهو محرم لغير حاجة، كالشأن في سائر جامعات المملكة السعودية، أما الكعبة فلا يمكن إنشاء كعبة غيرها تخصص للنساء!
1- خروج النساء المقر في التشريع كان بضابط التزامهن الحجاب والستر، وحرصهن على الحشمة والأدب، ومن ذلك مشروعية الطواف لهن، أما إذا خرجت المرأة متطيبة متزينة، غير ملتزمة بالحجاب الشرعي، فلا يشرع لها دخول المسجد، بل لا تشرع لها الصلاة، ولا يقبل منها الطواف فالطواف صلاة على ما أثر وفيهما لابد للمرأة من ستر سائر البدن إلاّ الوجه والكفين في الصلاة، فكيف يقاس هذا بالخروج إلى جامعة لا تشترط الحجاب والستر، بل بعض الجامعات على ما نقل تأذن في اختلاط الطلاب والطالبات بلباس البحر على الشاطئ أو عند المسبح فهل يُجَوِّز هذا إلاّ من سَفِه عقله وهل يُعدُّ استدلاله بوقوع اختلاطٍ عند الكعبة إلاّ تبجحاً بالجهل!
2- في الحج والعمرة عامة النساء يكُنَّ مع محارمهن وذويهن، ومن لم تكن كذلك أو لم يكن كذلك يجد نفسه في هذا الجو، فتضعف التهمة، ثم من يقصدون الكعبة يأتون راجين الأجر والمثوبة فاعلين للقربة لا يجمعهم حديث مشترك وأشجان متبادلة، بل كُلٌ في شأنه يناجي ربه، يسبح بحمده، يستغفره ويعلن توبته، أما في الجامعات المختلطة فلا يأتي الطالب أو الطالبة مع محرم! ولا يطلبون ما عند الله، ولا يبتغون ثواب الله، وليس في قلوبهم تعظيم بيت الله، ولا قلوبهن ملئت مهابة من حرم الله! فكيف يجعل هذا كهذا! ولمّا كانت هذه المعاني ضعيفة في بعض المواطن التي تدعو الحاجة إلى دخولها وليس فيها ما في تلك التي جاء بها التشريع من الحواجز التي تحول بين الناس والفتنة كانت أبغض البقاع عند الله كالأسواق(10) التي قد يختلط فيها الحابل بالنابل وإن كان لحاجة، على أن واقع الأسواق غير مقر شرعاً كله إلاّ ما انضبط بقيود الشريعة، وما خالفها يحتج له لابه، بل ليس كل ما يقع في الحرم مقر شرعاً.

الحرص على منع الاختلاط عند الطواف في العهد الأول:
ومع ما سبق يقال لهؤلاء: كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم كما في البخاري، فقالت امرأة: "انطلقي نستلم يا أم المؤمنين" قالت: "انطلقي عنك وأبت.."(11)، وهذا نص على أن الفاضلات لم يكن يخالطن الرجال في الطواف.
والناظر في فتوى القرون المختلفة، وما قاله أهل العلم، وما فعله بعض الولاة يجد مراعاة المنع من ذلك الاختلاط بينة، قال ابن جبير في رحلته: "وموضع الطواف مفروش بحجارة مبسوطة كأنها الرخام حسناً، منها سود وسمر وبيض قد ألصق بعضها ببعض، واتسعت عن البيت بمقدار تِسْعِ خُطاً إلاّ في الجهة التي تقابل المقام، فإنها امتدت إليه حتى أحاطت به.
وسائر الحرم مع البلاطات كلها مفروش برمل أبيض، وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة"(12)، ونحوه ذكر البلوي(13) وابن بطوطة(14)، وهذا يدلك على أن العمل القديم الذي تتابعت عليه عصور أهل الإسلام جرى قروناً طوالاً على الفصل بين الطائفين والطائفات، فقد كانت رحلة ابن جبير إلى مكة من الأندلس عام 578هـ، ورحلة ابن بطوطة وخالد البلوي بعده بنحو قرنين إلاّ ثلاثة عقود.
وربما جعل الولاة بعض يوم للنساء خاصة، تيسيراً للطواف عليهن، وتمكيناً لهن من أن يصلن البيت دون مخالفة للشريعة، ونحو هذا مذكور في بعض كتب أخبار مكة والمناسك(15).
وقد ذكر الأزرقي أن خالد بن عبدالله القسري أول من فرق بين الرجال والنساء في الطواف، وأجلس عند كل ركن حرساً معهم السياط، يفرقون بين الرجال والنساء(16). وأن ذلك استمر إلى زمانه، ولعل المراد هو أن خالداً أول من فرق بإلزامه وعقابه المخالف، وإن كان جريان العرف بذلك وتمسك الصالحات به مأثور من لدن عهود الصحابة المرضيين كما في أثر عائشة رضي الله عنها الماضي، وحمل بعض أهل العلم هذا على احتمال أنه فعله وقتاً ثم تركه(17) لما ورد في البخاري من إنكار عطاء على ابن هشام منعه طواف النساء مع الرجال وسيأتي بيانه، ويحتمل أنه فعل مدة ولايته ثم اختلطت الأمور بعده إلى عهد ولاية ابن هشام على مكة.
ونقل ابن جماعة في هداية السالك أن عمر رضي الله عنه نهى أن يطوف الرجال مع النساء، فدخل المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل يطوف مع النساء، فأقبل عليه ضرباً بالدِّرَّة، وقال: ألم أنْهَ عن هذا؟
قال: ما علمت.
قال: أما بلغك عزمي؟
قال: ما بلغني لك عزمة.
قال: دونك فأمسك يعني فاقتص.
قال: ما أنا بفاعل(18).
فإن صح هذا فلعل عمر رضي الله عنه جعل لهن وقتاً ليس للرجال فيه نصيب، ويحتمل أنه طاف في موضعهن من المطاف.

كشف شبهت من استدل بإنكار عطاء على ابن هشام:
وأما ما رواه البخاري: "قال ابن جريج أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام(19) النساء الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال! قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكنَّ يخالطن. كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت انطلقي عنك وأبت.." (20)، فنص على أنهن لم يكن يخالطن الرجال.
وإنكار عطاء صنيع ابن هشام قد يفهم منه بادي الرأي خلاف ما روي من منع عمر رضي الله عنه الرجال من الاختلاط بالنساء في الطواف، ومثله ما جرى في عهد خالد بن عبدالله القسري وليس كذلك، فقد وقع في الحديث إثبات عطاء أنهن لم يكن يخالطن الرجال، فإن لم تكن الخلطة المريبة موجودة لكون المرأة تطوف حجرة ناحية (بعيدة) عن الرجال زال الإشكال وارتفع المحظور، ثم إن قول عطاء نفسه في هذا الأثر: "وكن يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال"، هذه الرواية تدل على إخراج الرجال ليلاً، والرواية في مصنف عبدالرزاق قال: "ولكنهن إذا دخلن البيت سترن حين يدخلن، ثم أخرج عنه الرجال"(21)، وقد ثبتت من طريق عبدالرزاق، وطريق البيهقي والفاكهي وغيرهم، ومقتضى هذا يحتمل أن عمر إنما أمر بإخراج الرجال ليلاً، أو حد للرجال حداً لايتجاوزونه حال وجود النساء، كالذي كانت تطوف فيه عائشة رضي الله عنها حَجِرة، وليس أحد من هذه الوجوه في الجمع موقوفاً على تصحيح الرواية في منع عمر للخلطة، بل رواية الصحيح وعبدالرزاق والبيهقي وغيرهما الآنفة تشعر بهذا المعنى، قال ابن حجر: "قوله: حين يدخلن في رواية الكُشْميهَنِيِّ حتى يدخلن وكذا هو للفاكهي، والمعنى إذا أردن دخول البيت وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه"(22).
قال ابن حجر معلقاً على أثر منع عمر: "وهذا إن صح لم يعارض الأول لأن ابن هشام منعهن أن يطفن حين يطوف الرجال مطلقاً فلهذا أنكر عليه عطاء"(23).
فظاهر قول عطاء رحمه الله إنكار تحكم ابن هشام دون مقتضي في ذلك العهد، مع إمكان الطواف بغير خلطة من وراء الرجال.
والمحصلة أن قصد منع الخلطة المحرمة ثابت في حديث البخاري هذا وفي ما روي من صنيع المتقدمين من الخلفاء الراشدين المهديين ومن أتى بعدهم، تصوبه عموم نصوص الشريعة القاضية بمنع أسباب الفتنة وتزاحم الرجال والنساء، وإنما ينكر التعنت إذا لم تكن الخلطة المذمومة حاصلة، ولم يكن ثمة مقتض للإلزام بما لم يلزم به الشرع.
على أن مجرد إنكار عطاء رحمه الله ليس حجةً على غيره حتى يستمسك بها في مخالفة مقتضى النصوص.
وفيما نقله عن عائشة رضي الله عنها من ترك الاستلام الذي ندب إليه اجتناباً للخلطة ونفيها عنها بذكره طوافها ناحية كل ذلك دليل على أنه لاتسوِّغ تلك العبادة اختلاط النساء بالرجال.

مراعاة فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم منع الخلطة ما أمكن في المناسك:
ولعل هذا يبدو جلياً لمن أنار الله بصيرته في المسألة، ونظر في تشريع المناسك بإنصاف، وتأملَ ما وُضع من ضوابط لأجل صيانة النساء القاصدات لهذه العبادة، صيانة تحفظ معها كرامتهن، وتمنع من اختلاطهن بالرجال على الوجه المفضي للمفسدة بقدر الإمكان، ومن ذلك أن الشارع لم يوجب على المرأة حجاً أو عمرة إلاّ إذا كان معها محرم، ومن أباح لها السفر من الفقهاء مع رفقة من النساء مأمونةٍ قال: "لتستأنس بهنَّ ولاتحتاج إلى مخالطة الرجال"(24)، وكره مالك أن تركب البحر ولو للحج لأنه مظنة خلطة، وفرق فقهاء المالكية بين ما إذا كان في السفينة مكان تستغني به عن مخالطة الرجال فجوزوا هذا ومنعوا إذا لم يكن(25).
ثم جعلت الشريعة رخصاً لمن كانت معه نساء أو ضعفة ليست لغيره، كالدفع من مزدلفة بليل فقد رويت فيه أحاديث صحاح ومن ذلك حديث عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا. فصلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: نعم. قالت: فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه! ما أرانا إلا قد غلَّسنا، قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن(26). والأحاديث في هذا معروفة وقد رخص بها جمع من أهل العلم للنساء في الرمي والطواف قبل طلوع الشمس.
ومن مراعاة الفقهاء لأصل المنع من الاختلاط في الشريعة استحبابهم للمرأة ما لم يستحبوا للرجل من نحو طوافها بعيدة عن البيت(27)، ورخصوا لها في تأخير طواف القدوم إلى الليل خشية الزحام(28).
ومع هذا فقد صرح أهل العلم قديماً وحديثاً بأن الاختلاط غير المنضبط بما يعصم من الفتنة منكر لا يجوز، قال ابن جماعة في منسكه الكبير: "ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم سافرات عن وجوههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة..." إلى أن قال: "نسأل الله أن يلهم ولي الأمر إزالة المنكرات"، قال ابن حجر الهيتمي بعد أن نقله: "فتأمله تجده صريحاً في وجوب المنع حتى من الطواف عند ارتكابهن دواعي الفتنة"(29)، وتأمل كيف عد كشفهن عن الوجه ولايتصور من المحرمة الطائفة غير كشف الوجه والكفين، لا يظن بهن تبرجاً أو تهتكاً ومجوناً- مع إيقاد الشموع ولو بصحبة الأزواج من أسباب الفتنة.
وقد نص بعض أهل العلم على كراهة الطواف مع مطلق الاختلاط قال محمد بن إبراهيم بن فرحون المالكي في المسائل الملقوطة عن والده أنّه يكره الطواف مع الاختلاط بالنساء(30).
ومن مراعاتهم للمنع من الاختلاط في النسك قولهم: لايستحب لها أن تزاحم الرجال لاستلام الحجر الأسود(31).
قال ابن جماعة: "ولايستحب لها تقبيل ولا استلام مع مزاحمة الرجال، ولا يستحب لها الصلاة خلف المقام، أو في غيره من المسجد مزاحمة للرجال، ويستحب لها ذلك إذا لم تفض إلى مخالطة الرجال. وهذا مما لايكاد يختلف فيه؛ لما يتوقع بسببه من ضرر"(32).
وقال أيضاً: "ولا تزاحم الرجال، وينبغي أن يكون سعيها بين الصفا والمروة بالليل، كما تقدم في طوافها بالبيت، لأنه أستر وأسلم من الفتنة.
وقال بعض الشافعية: إنها إذا سعت بالليل في حال خلوة المسعى استحب لها شدة السعي في موضعه كالرجل... ولا ترقى على الصفا ولا على المروة عند الشافعية والحنابلة، وقال المالكية تصعد إذا كان المكان خالياً، وهو مقتضى كلام الحنفية، وقول بعض الشافعية المتقدم"(33).
وقولهم: لاتقف المرأة على الصفا للدعاء إلاّ إذا خلا المكان عن مزاحمة الرجال، ويكون سنة في حقها إذا خلا المكان(34).
ومن مراعاة بعض أمهات المؤمنين للأمر بلزوم البيوت ونبذهن الاختلاط، اكتفاؤهن بحجة الفريضة، وترك القيام للتطوع، وهذا مأثور عن زينب وسودة رضي الله عنهما، امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "هذه ثم ظهور الحصر"(35).
  
خاتمة:
مما سبق نخلص إلى أن الشارع حف الحج والعمرة بأحكام تكفل منع الخلطة المحرمة ومن ذلك اشتراط المحرم، ومع ذلك ندب المرأة إلى ترك مزاحمة الرجال، واستحب لها الفقهاء لأجل ذلك ما لم يستحبوه للرجال، حتى وضع بعض الحكام ضوابط تكفل ذلك، وهذا مع بعد الفتنة عند مهوى أفئدة المسلمين، وقد كان خير جيل بمن فيهم أمهات المؤمنين ونساء الصالحين يراعين ذلك فيمتزن عن الرجال، غير أنه تبقى نسوةٍ في القديم والحديث يصدق فيهن قول الأول:
من اللائيْ لم يحججن يبغين حِسْبَةً    ولكن ليقتلن البـريءَ المُغَفَّـلا
فعلى أخت الإسلام أن لا تغتر بهن، نسأل الله أن يصلح حال أخواتنا وأمهاتنا ونسائنا ونساء المسلمين.
وما سبق يدلك على أن من استدل على جواز الاختلاط في الجامعات بما يحدث في طواف الناس اليوم، فقد قاس مع الفارق أولاً، على أمر ليس كله مقر شرعاً، والله نسأل أن يلهم ولاة أمر المسلمين إزالة المنكرات، وأن ينجح مقاصد المصلحين الناصحين، والحمد لله رب العالمين.



(1) كما في آية الأحزاب: 33.
(2) كما في حديث عقبة بن عامر المتفق عليه: إياكم والدخول على النساء، البخاري (4934)، ومسلم (2172).
(3) صحيح بن خزيمة 3/93، ورواه أيضاً في التوحيد من حديث قتادة عن مورق وقد صحح رفعه الإمام الدارقطني كما في العلل له (5/314)، وقد رواه أيضاً ابن حبان في صحيحه من طريق ابن خزيمة 12/413، وكذلك الهيثمي في موارد الظمآن 1/103، ورواه الترمذي في السنن وقال: حسن غريب (3/476) إلاّ أن المنذري قال في الترغيب والترهيب 1/142: "رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب" وهذا تصحيح من الإمام الترمذي له، ولعله كذلك في بعض نسخ الجامع ومما يؤيده نقله من قبل غير المنذري كالزيلعي في نصب الراية 1/411 وكذلك ابن الهمام في فتح القدير 1/259 وكذلك ابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/123 نقل تصحيحه عنه ويبعد وهم هؤلاء جميعاً، وقد عزاه المنذري في الترغيب والترهيب 1/141 للطبراني في الأوسط وقال رجاله رجال الصحيح، وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/34 وقال في التي بعدها: رجاله موثقون، وهو في الأوسط للطبراني 8/101، وفي الكبير 10/108، وقد صحح هذا الحديث الدارقطني والترمذي وابن خزيمة وابن حبان وجوده ابن كثير (التفسير 3/483) والمنذري والهيثمي وغيرهم، والظاهر أنه صحيح وقد خالف هماماً سليمان بن المعتمر فرواه عن قتادة عن أبي الأحوص، ولهذا شك ابن خزيمة في سماع قتادة هذا الحديث خاصة عن مورق، والأقرب صحة سماعه له منه، فالرواي عن قتادة همام، ولئن كان سليمان أجل وأوثق في الجملة فإن هماماً من أوثق الناس في قتادة خاصة، فهو رابع أربعة في قتادة لا يقدم عليه فيه إلاّ ابن أبي عروبة وهشام وشعبة (انظر الكامل 7/129، وتهذيب الكمال 30/306، والجرح والتعديل 9/108 وغيرها)، خاصة إذا حدث عن همام من روى عنه متأخراً لكونه من كتابه، وعمرو بن عاصم من طبقة من رووا عنه أخيراً كعفان بن مسلم وحبان وبهز، وقد احتج البخاري برواية عمرو بن عاصم عن همام عن قتادة في خمسة مواضع من صحيحه، ويعزز صحة رواية همام أيضاً متابعة سعيد بن بشير وسويد بن إبراهيم والأقرب أنهما صالحين للاعتضاد- لها فهو لم يتفرد بها عن قتادة والله أعلم، وقد صح الأثر عن ابن مسعود موقوفاً كذلك، فلعل بعض الرواة مرة رفعه ومرة أخرى وقفه، ومثله إخبار عن غيب لعله لايقال بالرأي والله أعلم.
(4) صحيح مسلم (2742).
(5) متفق عليه؛ البخاري (4800)، ومسلم (1453).
(6) منها رسالة مختصرة في حكم الاختلاط للشيخ محمد بن إبراهيم جمع فيها تسع عشرة دليلاً على تحريم الاختلاط، وقد أفردت في رسالة مستقلة وهي في مجموع فتاواه رحمه الله 10/35، وفي كتابي الاختلاط بين الجنسين بيان أوجه دلالة بعضها بشيء من البسط.
(7) انظر تفسير ابن كثير للآية 3/483، وهو عند عبدالرزاق كما أشار الحافظ في الفتح 8/520 وسند عبدالرزاق الذي ذكر صحيح، وهو كذلك في الطبقات الكبرى لابن سعد 8/198.
(8) أحكام القرآن له 3/529.
(9) أحكام القرآن 3/568.
(10) ينظر صحيح الإمام مسلم (671).
(11) صحيح البخاري 2/585 وغيره.
(12) رحلة ابن جبير ص63، ط داري صادر في بيروت، 1379.
(13) ينظر: تاجُ المَفْرِق في تحلية علماء المشرق، لخالد بن عيسى البلوي، 1/304، بتحقيق الحسن السائح، ط صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المغرب والإمارات.
(14) رحلة ابن بطوطة 1/128، المكتبة العصرية مع غيرها، 1425.
(15) كرحلة ابن جبير، وقد كانت في ذلك العهد مرة في العام، تنظر رحلته ص115.
(16) روى معناه بطريقين في أخبار مكة 2/20-21، عن سفيان بن عيينة.
(17) فتح الباري، لابن حجر 3/480.
(18) ينظر هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك، لابن جماعة، 2/866، وقد عزاه لسعيد بن منصور، ولم أقف عليه.
(19) يحتمل اثنين، قال ابن حجر: "ابن هشام هو إبراهيم، أو أخوه محمد بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي، وكانا خالي هشام بن عبد الملك، فولى محمداً إمرة مكة، وولي أخاه إبراهيم بن هشام إمرة المدينة، وفوض هشام لإبراهيم إمرة الحج بالناس في خلافته" الفتح 3/480.
(20) صحيح البخاري 2/585 وغيره.
(21) المصنف 5/67 (9018)، تنظر في سنن البيهقي 5/78 (9030).
(22) الفتح 3/481.
(23) الفتح 3/481.
(24) انظر المبسوط للسرخسي 4/111.
(25) التاج والإكليل لمختصر خليل 3/485، وكذلك مواهب الجليل 3/520، وكان ساحة بعض السفن كانت عندهم كالمجس الواحد.
(26) البخاري 2/603، ومسلم 2/940.
(27) انظر للحطاب المالكي مواهب الجليل في شرح مختصر خليل 3/140 بل صرح المالكية بأن السنة لهن خلف الرجال كالصلاة انظر شرح مختصر خليل للخراشي 2/315، وللهيتمي الشافعي تحفة المحتاج في شرح المنهاج 4/92، وللزيلعي الحنفي انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2/16، وهو ما يفهم من كلام ابن قدامة والمرداوي من الحنابلة انظر المغني 3/185 والانصاف 4/8.
(28) انظر حاشية العدوي 1/527، ونص عليه الإمام الشافعي في الأم في حق الجميلة 2/232، وأضاف الشريفة في المجموع نقلاً عن الإمام والأصحاب 8/14، وكذلك في أسنى المطالب 1/476، وانظر المغني 3/157، وهو في كتب فقهاء الحنابلة كثير.
(29) الفتاوى الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي 1/202، وقد نقله موافقاً له ومحله من منسكه 2/868.
(30) تنظر المسائل الملقوطة ص221، والنهي عن الطواف مختلطاً بالنساء كثير في كتب المالكية وغيرهم ينظر مثلاً كتاب مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب المالكي 3/110 وكذلك الفواكه الدواني 1/358 و367، وحاشيتا قيلوبي وعميرة في فقه الشافعية 2/134.
(31) المغني 3/183.
(32) هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك، لابن جماعة، 2/864، وقوله: لايستحب المتوجه حمله على التحريم إذا أفضت المزاحمة إلى محرم كالتلامس فما فوقه.
(33) هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك، لابن جماعة، 2/883-884.
(34) الفواكه الدواني 1/359، وانظر المغني 3/192.
(35)  حديث صحيح فقد رواه جمع من طريق زيد بن أسلم عن واقد بن أبي واقد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خرجها من هذا الطريق الإمام أحمد في مسنده 5/218 والتي تليها، وكذلك أبويعلى 3/32، والبيهقي في الكبرى 4/327، 5/228 وأبو داود في سننه 2/140، وأرسلها عبدالرزاق عن زيد بن أسلم في مصنفه 5/8، وغيرهم وقد أعل بعض أهل العلم كالذهبي في الميزان   (7/119) هذا الطريق بتفرد زيد بن أسلم بالرواية عن ابن أبي واقد، غير أن ابن حجر في الفتح صححها وقال: (4/74) " وإسناد حديث أبي واقد صحيح وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع الرافضة.. وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل"، ولعل لإعلال الذهبي لتلك الطريق وجه بيد أن الحديث صح من طريق ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصالح وإن اختلط فإن رواية ابن أبي ذئب عنه قديمة كما قرر الحفاظ، قال ابن عدي: "لابأس إذ سمعوه منه قديماً" (الفروع لابن مفلح 1/530-531)، وقال الهيثمي في المجمع 3/214: "وفيه صالح مولى التوأمة ولكنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وابن أبي ذئب سمع منه قبل اختلاطه"، وهو كما قال وإليه أشار الحافظ في التقريب، وهو الذي عليه الأئمة كما أشار إليه ابن عبدالبر في التمهيد 23/361، ومن هذا الطريق خرجه الإمام أحمد 2/446، و 6/324 وهو في مسند الحارث 1/440، وعند الطيالسي 1/229، وأبي يعلى 13/80، 13/88، وغيرهم، وجاء من طريق ثالث لابأس به فقد جاء من عدة أوجه عن عثمان الأخنسي عن عبدالرحمن بن سعيد بن يربوع عن أم سلمة كما عند أبي يعلى 12/312، والطبراني في الكبير 23/313، وغيرهما. فالحديث صحيح إن شاء الله، وقد وثق رواته المنذري في الترغيب والترهيب 2/138، وصححه الهيثمي في مجمع الزوائد 3/214، وكذلك الألباني في صحيح أبي داود 1515، وقد تكلم أهل العلم في تأويله. 

المصدر: الدرر السنية