(30) أسباب اكتساب الهمة العالية (13)

محمد بن إبراهيم الحمد

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره اللَّه».. فمن أراد أن يكون متناهياً في الفضل، عالياً في ذرى المجد، حاوياً قصب السبق، مستولياً على أمده، فائزاً بخيري الدارين، فعليه أن يتدرع بالصبر ويتذرع به، وأن يتكلفه ويوطن نفسه عليه، وأن يتجرع مرارته؛ ليذوق حلاوته..

  • التصنيفات: تزكية النفس -

41- الصبر والمصابرة والجد والمثابرة:
فالصبر خصلة محمودة، وخلة مرغوبة، وعلاج ناجع، ودواء نافع، عواقبه جميلة، وآثاره حميدة، وفوائده جمة، وعوائده كريمة، ولهذا أكثر اللَّه من ذكره في كتابه، وأعلى منزلته، وأثنى على أهله، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر من الآية:10].

وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور} [الشورى من الآية:43].
وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [النحل من الآية:127].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران من الآية:200].
وقال: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة من الآية: 155].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره اللَّه» (رواه البخاري:3/265، ومسلم:1053).
فمن أراد أن يكون متناهياً في الفضل، عالياً في ذرى المجد، حاوياً قصب السبق، مستولياً على أمده، فائزاً بخيري الدارين، فعليه أن يتدرع بالصبر ويتذرع به، وأن يتكلفه ويوطن نفسه عليه، وأن يتجرع مرارته؛ ليذوق حلاوته، والصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته، لكن عواقبه أحلى من العسل! فإذا تحلى بالصبر، وأصبح سجية له وطبعاً نال مطلوبه، وأدرك مراده..

وقل من جد في أمر تطلبه *** واستصحب الصبر إلاَّ فاز بالظفر


فمن كان محباً للعلم، راغباً في تحصيله، وكان ذا قريحة صافية، وذكاء مفرط لم يكفه ذلك ما لم يصحبه حرص وجد، وصبر ومصابرة، قال الإمام الشافعي:  

اصبر على مر الجفا من معلم *** ومن لم يذق مر التعلم ساعة
ومن فاته التعليم وقت شبابه *** فإن رسوب العلم في نفراته
تجرع مر الجهل طول حياته *** فكبر عليه أربعاً لوفاته[1]


وعن بعض السلف: "من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهل، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة" [2].

وقال ابن القيم: "وأما سعادة العلم فلا يورثك إياها إلاَّ بذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية" [3].
ومن كان متصدياً للدعوة إلى الإصلاح، منبرياً للدفاع عن الحق فما أشد حاجته للصبر، وتوطين نفسه على المكاره؛ فإن في ذلك السبيل عقبة لا يقتحمها إلاَّ ذوو الهمم الكبيرة؛ فإن في طوائف المبطلين أو المفسدين نفوساً طاغية، وأحلاماً طائشة، وألسنة مقذعة، وربما كانت فيه أيد باطشة، وأرجل إلى غير الحق ساعية، وإنما تعظم هممهم بقدر صبرهم، وبقدر ما يتوقعنه من فقد محبوب، أو لقاء مكروه [4].

فلا بد لهم من الصبر على دعوة الناس، ولا بد لهم من الصبر على انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج عكسية تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمة للداعية من الانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.

إنه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض، وليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر [5].
بل إن كان أحد من الناس لا بد له من الصبر على بعض ما يكره؛ إما اختياراً أو إما اضطراراً؛ فالكريم يصبر اختياراً؛ لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يحمد عليه، ويذم على الجزع، وأنه إن لم يصبر لم يرد عليه الجزع فائتاً، ولم ينتزع عنه مكروهاً، فمن لم يصبر صبر الكرام سلا سلوّ البهائم [6].

قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "وجدنا خير عيشنا بالصبر" [7].
وقال: "أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً" [8].
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "الصبر مطية لا تكبو" [9].
وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه اللَّه إلاَّ لعبد كريم عنده" [10].

هذا وإن أعظم الصبر وأحمده عاقبة الصبر على امتثال ما أمر اللَّه به، والانتهاء عما نهى اللَّه عنه؛ لأن به تخلص الطاعة، ويصح الدين، وتؤدى الفروض، ويستحق الثواب، فليس لمن قل صبره على طاعة اللَّه حظ من بر، ولا نصيب من صلاح، ومن الصبر المحمود الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة؛ فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خرق.

ومن جميل الصبر الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها؛ فلا يتعجل هم ما لم يأت؛ فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.ومن ذلك أيضاً الصبر على ما نزل من مكروه، أو حل من أمر مخوف؛ فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء، وتستدفع مكائد الأعداء؛ فإن من قل صبره عزب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة غمومه [11].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ـ ديوان الشافعي تحقيق خفاجي ص83.
[2] ـ تذكرة السامع والمتكلم ص91.
[3] ـ مفتاح دار السعادة 1/108.
[4] ـ انظر رسائل الإصلاح 2/92.
[5] ـ انظر: من صفات الداعية د. محمد الصباغ ص51.

[6] ـ انظر عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم ص74.
[7] ـ عدة الصابرين ص124.
[8] ـ عدة الصابرين ص124.
[9] ـ عدة الصابرين ص124.
[10] ـ عدة الصابرين ص124.
[11] ـ انظر أدب الدنيا والدين ص287-290. 

المصدر: كتاب: الهمة العالية