الوقت هو الحياة

أحمد البراء الأميري

أما أصول النِّعم فأولها: نعمة الإيمان، ومن أجلِّها: نعمة العافية، ونعمة الزمن الذي هو عُمُرُ الحياة، وميدان وجود الإنسان، وساحة ظلِّه وبقائه، ونفعه وانتفاعه.

  • التصنيفات: أعمال القلوب -

شواهد وحكم

إن نِعَم الله تعالى على عباده كثيرة، لا يمكِنهم أن يحصروها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]؛ لأن في كلِّ نعمة منها نعمًا كثيرة، لا يعرِف بعضَ قدرِها إلا مَن افتقدها.

"وإن للنِّعم أصولًا وفروعًا؛ فمن فروع النِّعم مثلًا البَسْطة في العلم والجسم، والمال، المحافظة على نوافل العبادات..، أما أصول النِّعم فأولها: نعمة الإيمان، ومن أجلِّها: نعمة العافية، ونعمة الزمن الذي هو عُمُرُ الحياة، وميدان وجود الإنسان، وساحة ظلِّه وبقائه، ونفعه وانتفاعه" [1].

وقد اخترت أن أمهِّد لهذا الكتاب الذي يتحدث عن (فن الحياة) هذا التمهيد المفصَّل؛ لإيماني العميق أنه ما من فرد، ولا جماعة، ولا مجتمع، يمكِن أن ينجحَ في الحياة ويكون شيئًا مذكورًا ما لَم يُحسِنِ استثمارَ وقته بالشكل الأمثل.


[1]- الوقت في القرآن الكريم:

ورَدَت الإشارة إلى (الزمن والوقت) في القرآن الكريم في مواطنَ عدة، في معرِضِ الامتنان على العباد، وفي بيانِ أهمية الزَّمن الذي هو مادة الحياة وحقيقتها، ووعاء الأعمال وإطارها الذي لا يمكن أن تخرُجَ عنه.

ففي معرِضِ الامتنان يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]؛ أي: جعَل الليلَ يخلُف النهار، والنهارَ يخلُف الليل؛ فمن فاته عمَلٌ في أحدِهما، حاول أن يتداركَه في الآخر [2].

وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ . وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:33-34].

وقال عز وجل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73].

ولبيانِ أهمية الزمن أقسَم اللهُ تعالى به في مختلفِ أطواره، في آياتٍ عدة، فأقسم: بالليل، والنهار، والفجر، والصبح، والشَّفَق، والضحى، والعصر.

فمن ذلك:
قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1-2].
وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ . وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:33-34].
وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ . وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:17-18].
وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ . وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:16-17].
وقوله: {وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2].
وقوله: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1-2].
وقوله:  {وَالضُّحَى . وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2].

"ومن المعروف لدى المفسرين وفي حس المسلِمين أن الله تعالى إذا أقسَم بشيء من خَلْقه، فذلك ليلفِتَ أنظارهم إليه، وينبِّهَهم على جليلِ منفعتِه وآثاره" [3].

قال الإمام الرازي رحمه الله [4] في تفسيره لسورة العصر: "أقسَم الله تعالى بالعصر الذي هو الزمنُ؛ لِما فيه من الأعاجيب؛ لأنه يحصُل فيه السَّراء والضرَّاء، والصِّحة والسَّقم، والغنى والفقر، ولأن العمر لا يُقوَّم نَفَاسة وغلاء..، فكان الزمانُ من جملةِ أصول النِّعم".

ونبَّه سبحانه على أن الليلَ والنهار فرصةٌ يضيِّعها الإنسان أو يستثمرها؛ فلا غرابة إذًا أن يرِدَ ذكر الليل في القرآن الكريم (74) مرة، وذكر النهار (54) مرة، عدا ذكر أجزائهما.

وقد أنَّب اللهُ تعالى الكفار؛ إذ أضاعوا أعمارَهم من غير أن يؤمنوا، فقال سبحانه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].


[2]- الوقت في السنَّة المطهرة:

• عن ابنِ عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس؛ الصحةُ والفراغ» [5].

والغَبْن أن يشتري المرءُ بأغلى من الثمن المعتاد، أو يبيع دونه، فمن صحَّ بدَنُه، وتفرَّغ من الأشغال العائقة، ولم يَسْعَ لصالح آخرته، فهو كالمغبونِ في البيع، والمقصود من الحديث: أن غالبَ الناس لا ينتفِعونَ بالصحةِ والفراغ، بل يصرِفونهما في غير محالِّهما.

قال ابن الجوزي رحمه الله: "قد يكون الإنسانُ صحيحًا ولا يكون متفرِّغًا؛ لانشغاله بالمعاش، وقد يكونُ الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرِّغًا؛ لانشغالِه بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمَعَا فغلَب عليه الكسلُ عن الطاعة، فهو المغبونُ، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعةُ الآخرة، فمَن استعمل فراغه وصحتَه في طاعة الله، فهو المغبوط، ومَن استعملهما في معصية الله، فهو المغبون؛ لأنَّ الفراغَ يعقبه الشُّغل، والصحة يعقبها السَّقم، ولو لم يكن إلا الهَرَمُ، لكفى".

• وعن مُعاذِ بن جبل رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لن تزولَ قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربعِ خصال: عن عمره، فيمَ أفناه، وعن شبابِه فيمَ أبلاه، وعن ماله: من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن عِلمه ماذا عمل به» (الطبرانيُّ والبزَّار).

فالإنسان يُسأَل عن عمرِه بصفة عامة، وعن شبابِه بصفةٍ خاصة، مع أن الشبابَ جزءٌ من العُمر، لكنه خُصَّ بالمسألة والذِّكر؛ لأنه ربيعُ العُمر، وقمة النشاط والحيوية والعطاء.

• وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنِمْ خَمسًا قبل خَمس: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فَقْرك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك» [6].

• وعن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «بادِروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظِرونَ إلا فَقْرًا مُنسِيًا، أو غِنًى مطغيًا، أو مرَضًا مفسِدًا، أو هرَمًا مُفْنِدًا [7]، أو موتًا مجهِزًا، أو الدَّجالَ؟ فشرُّ غائب يُنتظَر، أو الساعةَ؟ فالساعةُ أدهى وأمَرُّ» [8].


[3]- بعض ما قيل عن الوقتِ في التراث الإسلامي:

• قال أبو بكرٍ الصديقُ رضي الله عنه: "اعلَمْ أن لله عملًا بالنهارِ لا يقبَلُه بالليل، وعملًا بالليل لا يقبَلُه بالنَّهار".

• وقال عبدُالله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمتُ على شيء نَدَمي على يوم غرَبَتْ شمسُه، نقص فيه أجلي، ولم يزِدْ عملي".

• وقال عمرُ بن عبدالعزيز رحمه الله: "إن الليلَ والنهار يعمَلانِ فيك، فاعمَلْ فيهما".

• وقال الحسَنُ البَصري رحمه الله: "يا ابنَ آدم، إنما أنت أيَّام، فإذا ذهَب يومٌ، ذهَب بعضُك".

• وقال: "أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم حرصًا على دراهِمِكم ودنانيرِكم".

وقال أبو العلاءِ المعرِّي رحمه الله:
ثلاثةٌ ليس لها إيابُ *** الوقتُ، والجمالُ، والشبابُ

• وقال الوزير الصالح يحيى بنُ هُبَيرة رحِمه الله:
والوقتُ أنفَسُ ما عُنِيتَ بحِفظِه *** وأراه أسهَلَ ما عليك يَضيعُ

• وقال حسن البنا رحمه الله: "الوقتُ هو الحياة".

• وقال أحدُ الحكماء: "من أمضى يومًا من عُمره في غيرِ حقٍّ قضاه، أو فرضٍ أدَّاه، أو خيرٍ أسَّسه، أو عِلمٍ اقتبَسه، فقد عقَّ يومَه، وظلَم نفسَه".

• وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتابه صيد الخاطر: "ينبغي للإنسان أن يعرِفَ شرفَ زمانه، وقدرَ وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قُربة، ويقدِّم فيه الأفضل فالأفضل من القولِ والعمل، ولتكُنْ نيَّتُه في الخير قائمةً من غير فتور، بما لا يعجِزُ عنه البدنُ في العمل...، وقد كان جماعةٌ من السَّلف يبادرون اللحظاتِ، فنُقل عن عامرِ بن عبدقيس أحدِ التابعين العبَّاد الزهَّاد أن رجلاً قال له: كلِّمْني، فقال له: أمسِكِ الشمسَ!".

وقد رأيتُ عموم الخلائق يدفَعون الزمان دفعًا عجيبًا! إن طال الليلُ، فبحديثٍ لا ينفَع، أو بقراءة كتابٍ فيه غزلٌ وسَمَر، وإن طال النهار فبالنومِ، وهم في أطرافِ النَّهار على دِجْلَةَ، أو في الأسواق، فشبَّهتُهم بالمتحدِّثين في سفينةٍ وهي تجري بهم، وما عندهم خبَر!

ورأيتُ النَّادرين قد فهِموا معنى الوجود؛ فهم في تعبئة الزَّاد والتَّهيُّؤ للرحيل، فاللهَ اللهَ في مواسِمِ العُمر، والبدارَ البدارَ قبل الفواتِ، ونافِسوا الزَّمان!".


[4]- بعض ما قيل عن الوقت في التراث غيرِ العربي:

• "تسُود الفوضى عندما نترُك الوقت للمصادفة"؛ فيكتور هوجو.

• "هل تحبُّ الحياة حقًّا؟ إذًا لا تُهدِرْ وقتك؛ لأنه لبُّ الحياة"؛ فرانكلين.

• "حافِظْ على وقتك جدًّا، احرُسه، راقِبْه، افعل ذلك مع كل ساعة ودقيقة؛ لأن الوقت ينسلُّ من بين أصابعِكَ كالأفعى النَّاعمةِ، انظُرْ إلى كل دقيقة من وقتِكَ على أنها شيءٌ ثمين مقدَّس، وأعطِها معنًى، ووضوحًا، ووعيًا"؛ ثومان مان.

• "المشكلة تكمُن في أنفسنا، المسألة ليست في مقدارِ ما نملِكُ من الوقت، بل في كيفيةِ الاستفادة منه بشكلٍ جيد، الوقت بخلاف المال، لا يمكِنُ تكديسُه، أو جمعُه، ونحن مرغَمون على إنفاقه بسرعة 60 ثانية في كل دقيقة، ويبدو أن الوقتَ من بين كل الموارد الأخرى نال أقلَّ قدرٍ من الفَهم لقيمته، وأكبر قدر من السُّوء في إدارته"؛ ماكينزي.

• "عقرب الدقائقِ لا يمكننا التحكُّم فيه؛ فالقضية إذًا ليست في إدارةِ الساعة ذاتها، بل في إدارة أنفسِنا حسَب الساعة"؛ ماكينزي.


[5]- نماذج من سِيَر سلفنا الصالح في الحِرص على الوقت:

قال الحافظ الذهب [9] في ترجمة الإمام المحدِّث حماد بن سلمة البَصري: "الإمام المحدِّث النَّحْوي الحافظ القدوة، شيخُ الإسلام.. مات سنة سبع وستين ومائة، قال عنه تلميذُه عبدالرحمن بن مهدي: لو قيل لحمَّاد بن سلمة: إنك تموتُ غدًا ما قدَر أن يزيدَ في العملِ شيئًا!".

والإمام القاضي أبو يوسف، صاحبُ أبي حنيفة، باحَث في مسألة فقهية وهو في النَّزع، قال تلميذُه القاضي إبراهيم بن الجراح: مرِض أبو يوسف، فأتيتُ أعُوده، فوجدته مغمًى عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم، ما تقول في مسألة؟ قلت: في مثل هذه الحالة؟ قال: ولا بأس بذلك، ندرس لعلَّه ينجو به ناجٍ.

والإمام المحدِّثُ المجتهد، محمد بن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة أيضًا، كان لا ينامُ الليلَ إلا قليلًا، وكان يزيل نومَه بالماء من أجل القراءة والدرس.

وكان الجاحظُ إذا وقَع بيده كتابٌ قرَأه من أوله إلى آخره، وكان يستأجر دكاكين الورَّاقين الذين يبيعون الكتب، ليبيتَ فيها ويطالع ما فيها.

وحُكِي عن الإمام ثعلب أنه كان لا يفارقُه كتابٌ يدرُسُه، وبلغت مؤلفات الإمام ابن جرير الطبري مبلغًا عظيمًا؛ وذلك من حرصه على الاستفادةِ من وقته، يقول عنه الأستاذ محمد كرد علي في كتابه: (كنوز الأجداد): "وما أُثِر عنه أنه أضاع دقيقةً من وقته في غير الإفادة والاستفادة".

وكان الإمامُ أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي المتوفى سنة 513هـ (وهو من أذكياءِ بني آدَمَ) يقول: "إني لا يحلُّ لي أن أضيِّع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملتُ فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطَر لي ما أسطِّره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنتُ وأنا ابن عشرين سنةً".

وأعجبُ من ذلك حالُ شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفَّى سنة 728 عن (67) سنة، وعن نحو (500) مجلَّد تأليفًا.

قال عنه تلميذُه الإمام ابن القيم: "وقد شاهدتُ من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية: في سُننِه، وكلامه، وإقدامِه، وكتابته أمرًا عجيبًا؛ فكان يكتُبُ في اليوم من التصنيف ما يكتُبُه الناسخ في جمعة وأكثر".

 

_________________________
[1]- قيمة الزمن عند العلماء - عبدالفتاح أبو غدة، ص15 بتصرف، ومنه استفدتُ في هذا الفصل.
[2]- انظر تفسير الفخر الرازي: [24/93].
[3]- الوقت في حياة المسلم - د. يوسف القرضاوي: 5.
[4]- التفسير الكبير: [32/80] بتصرف.
[5]- البخاري، والترمذي، وابن ماجه؛ انظر: فتح الباري: [11/229].
[6]- الحاكم في المستدرك، وصححه، ووافَقه الذهبي.
[7]- الفَند: ضعفُ الرأي من الهَرَم.
[8]- الترمذي في كتاب الزُّهد: [2306].
[9]- تذكرة الحفاظ: [1/302]، وسير أعلام النبلاء: [7/447].