المؤمنون وحالات الاكتئاب

المؤمن أمره كله له خير، حتى همومه وغمومه إن احتسبها، فتصير له خير، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجباَ لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراَ له، وإن أصابته ضراء ص?ر فكان خيراً له».

  • التصنيفات: الذكر والدعاء -

لا نشك أن هناك بعض التغييرات الفيسيولوجية في بعض حالات المرضي بالاكتئاب لها سبب مرضي وتأثيرات كيميائية على العمليات الحيوية في الجسد وتحتاج إلى دواء وعقاقير تخفف من وطأتها وتساهم في علاجها, لكننا ههنا نتحدث عن أصل سبب الاكتئاب النفسي الذي قد يصيب المرء, وقد يشمل معنى الاكتئاب الذي نتحدث عنه في المقال معاني الحزن والهم والضيق وغيرها من المعاني المسببة للآلام النفسية الداخلية.

وقد أصاب الاكتئاب والملل من الحياة كثيراً من الغربيين, وكيف لا يكتئبون وقد عاشوا واختاروا أن يعيشوا حياة نفعية خالصة، أكل ونوم وأحلام مؤقتة، وقد ينتهي عند الكثير منهم على اختلاف أعمارهم وصول الاكتئاب عندهم إلى أعالي درجاته حتى ربما ألقوا بأنفسهم في دائرة الانتحار، وذلك أيضاَ أمر طبيعي ليس فيه أي عجب بالنسبة لهم، فلا دين رادع ولا عقيدة ثابتة ولا أصول يعودون إليها.

ورغم كل ما يتمتعون به من نعم الخالق التي تحوطهم ليلاَ ونهار، فعلي العكس ينسبون كل نعمة تعود إليهم إلى ذاتهم على حد قولهم: "ذلك نتيجة عملهم وجهدهم، صاروا متنعمين".

أما المسلم: فكيف يكتئب وقد منحه الله تعالى الكثير من النعم؟!
الفرق بين الطرفين أن كل نعمة لدى المؤمن يرجع منحها لله تعالى الخالق، فيختلف تمتع المسلم عن تمتع الكافر بها.

فنعمة البصر يتمتع بها المسلم لأنه يرى مخلوقات الله في الكون وجمال الطبيعة والإحساس بوجود الله سبحانه، لكن الكافر يجد في البصر ما ينظر به إلى كل ما يريد سواء أكان جميلاً أو قبيحاً، شراً أو خيراً.

والمؤمن أمره كله له خير، حتى همومه وغمومه إن احتسبها، فتصير له خير، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عجباَ لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراَ له، وإن أصابته ضراء ص?ر فكان خيراً له».

ليس ذلك فقط، بل أعطى لنا ديننا العظيم مفتاح الخلاص من هذه المحن من طرائق اللجوء إليه ودعائه بأدعية وأذكار لها دورها الكبير بجانب الشعور بمعية الله تعالى والثقة بأن لا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه.

فإبراهيم عليه السلام كان معلقاً بين السماء والأرض، وعالماً ألا مفر من وقوعه في النار، لكنه في هذه اللحظة رفع بصره إلى السماء مردداَ: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فكانت معية الله تعالى له بأمر النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم!!

ويونس لما التقمه الحوت، فناجى في الظلمات ربه: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}، فكانت معية الله تعالى له وكشف عنه السوء.

أما هاجر المحبة لربها إذ أحسنت الظن به سبحانه حيث تركها زوجها إبراهيم في صحراء خاوية جدباء بلا زرع ولا ماء، وأيقنت أن ذلك أمر الله تعالى لزوجها فقالت وبين يديها وليدها الرضيع: "إذن لن يضيعنا الله".

فمن قصد الله في محنته بقلب خالص فلن يخذله ربه أبداَ، فاللجوء والتوكل على الله تعالى والعودة إليه كافٍ بأن يُخرج العبد من أزمته ومن كربه وهمه.

والمؤمن في خاطره فكرة يعيش عليها، وهدف يسعى نحوه، تتعلق بإصلاح الحياة، وتقويم الناس، وبث الخير والهدى، فيسعى إليها، فيستغل الفراغ الذي عنده فلا يستطيع أن يطرق الشيطان بابه، فلا يجد أي خيط لدخول الملل والاكتئاب لديه، ويبدل ذلك الفراغ بما يرضي الله تعالى ويحتسب كل عمل يقوم به لله.

وفي أحيان كثيرة يصيب الاكتئاب الإنسان ضعيف النفس، لكن المسلم ليس بضعيف لأن إيمانه جعله من أقوى الأقوياء وبزيادة الإيمان يزيد ارتباط العبد بربه، وعندها تجد في قلبه القوة التي يستطيع أن يتغلب بها على كل الصعاب، لذلك إذا شعر العبد بالاكتئاب ليس عليه إلا أن يعود إلى ربه وأن يقوي إيمانه ويراجع حساباته.

ويبحث عن كل ما باعد بينه وبين ربه، ويطرق الباب بالدعاء والمناجاة وصلاة الليل والخلوة به سبحانه فسوف يجد في قلبه الراحة التي يبحث عنها بعد الضيق والسعادة بعد الحزن، بل قد يجد من ذلك حلول الأمور المعقدة ففي الحديث عن عائشة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لا ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة».

وكيف يحزن المسلم أو يكتئب وهو يعلم أن كل ما يصيبه من هم أو غم حتى الشوكة له عليها أجر!! فعن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا حزن ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله تعالى بها خطاياه».

هكذا يجب أن يعيش المؤمن بتلك النفحات الربانية فتخرجه من دائرة الأحزان والاكتئاب، فتغير أحواله، إذ بالإسلام يعرف العبد ربه بأسمائه العليا وصدّق بها، فاستشعر رحمة ربه وعلمه وقيوميته وكشفه الضر وإجابة دعوته إذا هو دعاه.

على جانب آخر: على المسلم أن يعلم أنه قد لا يدرك المرء كل أمانيه، بل قد يحقق بعض أمانيه التي بات يحلم بها، لكنه عليه بالرضا، لأن قدر الله تعالى حال بينه وبين تحقيقها، ذلك الرضا الذي يجعل القليل عنده كثيراً، بل يشبع الإنسان ويحجم نظره تجاه ما عند الغير، فيسعد قلبه دائماَ ولا يجد للاكتئاب ولا الأحزان باباً للدخول إليه.

أيضاَ علمنا إسلامنا أنه لا يصح لمسلم أن يحمل في قلبه لأخيه ضيقاً أو خصاماً، ولابد أن يدخل قلبه في دائرة العفو والتسامح لمن ظلمه، فإن ترويض القلب على العفو باب لإعادة السعادة إليه، فكيف يكتئب وهو محب لكل الطيبين؟!

أيضاَ: الحسنة تلو الحسنة تضع في القلب نوراً يستوجب له السعادة، والسيئة تلو السيئة تجعل في القلب راناً يورث له الظلمة والوحشة وحمل الهموم، لكن إذا مسه الحزن عليه ألا يقنط من رحمة الله تعالى، وليس عليه إلا باب التوبة الخالصة الصادقة كي تخلصه مما هو فيه، حينئذ يقبله ربه ويبدل ضيقه بالفرج وعسره باليسر، فكيف يكتئب العبد وأمامه كل هذه الأبواب؟!

وقد يكون من أسباب اكتئاب العبد دَينٌ أثقل عاتقه، فالعلاج هنا في السنة النبوية، أولاً أن عليه عقد النية الخالصة لله على السداد، ثم الدعاء! وقد أوصانا النبي الكريم صلي الله عليه وسلم بكلمات صالحات: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» (أخرجه البخاري).

ثم بعد ذلك الأخذ بالأسباب في وضع خطة لسداد ذلك الدين، وعليه أن يعلم أن الذي سيعينه في سداد دينه هو الله تعالى، كما في الحديث الشريف: «ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف»، فلماذا يكتئب العبد بعد ذلك؟!

إن لقاء الله تعالى قادم لا مفر، فلا داعي لأن يضيع المرء أيام حياته في الاكتئاب! إذ يكون من آثاره حرمان العبد أيضاَ كثيراً من العبادات، فهذا اليوم الذي يمر على العبد لن يعود مرة ثانية، فلنترك الأحزان والهموم بقوة إرادة للخلاص من قيود ذلك الاكتئاب، وننظر لأيامنا بمرآة الأمل الصالح، والخير المأمول فيما عند الله تعالى.

فاليوم إن شاء الله، بالحمد والرضا يصبح أفضل من أمس، وغداً بشيئه الإله وحسن الظن به سبحانه سيكون أفضل من اليوم.

فعار على المسلم أن يكون إلهه الله تعالى ونبيه محمد صلي الله عليه وسلم ودينه الإسلام ثم نراه يكتئب!!
 

أميمة الجابر