الوعي بالواقع ودوره في إحياء الأمة

محمد المصري

ويقول عبد الله بن مسعود: "رحم الله امرئ عرف زمانه فاستقامت
طريقته".....

  • التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة -

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله صلي الله عليه وسلم وبعد:
الوعي بالواقع أو ما يمكن أن نطلق عليه "فقه الواقع" علم أصيل، تبنى عليه كثير من العلوم والأحكام، وفي ضوئه تتخذ المواقف المصيرية.

تعريف فقه الواقع
هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة، من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل.[1].

* العوامل الداعية إلي الاهتمام بفقه الواقع:
أ-استجابة لأمر الله عز وجل وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وصحابته الكرام:
-فأما أمر الله:- يقول الله عز وجل {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [2] ومن فقه الواقع استبانة سبيل المجرمين، ومعرفة أهدافهم ومخططاتهم، لهذا جاءت كثير من الآيات مفصلة ومبينة سبيل أعداء الله، وفاضحة لمآربهم وغاياتهم، أما السنة فقد حفلت بكثير من الوقائع والشواهد،التي تدل على عناية المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الجانب.

فها نحن نراه صلى الله عليه وسلم يوجه المستضعفين من صحابته بالهجرة إلى الحبشة، وهذا برهان ساطع على معرفته صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله، وأحوال الأمم المعاصرة له.

فلماذا لم يرسل الصحابة إلى فارس أو الروم أو غيرهم؟، ولماذا اختار الحبشة؟، يبين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد " وفي السيرة النبوية أمثلة كثيرة تبين اهتمام النبي صلي الله عليه وسلم بالواقع المحيط به صلي الله عليه وسلم ،أما عن أهتمام الصحابة الكرام به فيقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" أي لست بالماكر المخادع -وحاشاه عن ذلك- ولكنه لا يمكن أن يخدعه الماكر المراوغ.

ويقول عبد الله بن مسعود: "رحم الله امرئ عرف زمانه فاستقامت طريقته".

ويذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره: "أن فقه المسلم لواقعه من لوازم معرفة (لا إله إلا الله) على معناها الصحيح، ولم لا ؟ وبفقه الواقع يكتمل مبدأ تحقيق الولاء والبراء، وهذا المبدأ أصل من أصول عقيدة التوحيد التي جاءت بها (لا إله إلا الله)" [3].

ب- أنه سبيل إلي تكوين فقهاء التمكين: وذلك أنه في هذه الأيام التي لا نزال نتلمس فـيـهـا طـريق النهضة وطريق التغيير، نحن بحاجة إلى مفكرين (فقهاء) وبالمعنى العام لكلمة (فقه) وهـي: الفهم العميق للإسلام، كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» [صححه الألباني].

نحن بحاجة إلى فقهاء علماء يعرفون سنن التغـيـيـر وأمـراضـنـــا الاجتماعية وواقعنا وواقع غيرنا تمام المعرفة، وما هي الخطوات المرحلية التي يجب أن نبدأ بها، إن مشكلة (المسلم) لا تحل إلا بتحديدها تحديداً دقيقاً، والتفكير فيها، وهذا لا يؤتاه إلا (أولو الألباب) وعندمـــا ذكر القرآن الكريم أن عشرين من المؤمنين. يغلبون مائتين من الذين كفروا قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [سورة الحشر: 13].

ولذلك قال عبد الله بن مسعود يـصـف بـعـض المظاهر في آخر الزمان: "يكثر الخطباء ويقل الفقهاء" [4].

ولتكوين "أولي الالباب" نحتاج إلي علم ووعي بالواقع، ذلك إن علوم فقه الواقع اليوم أشبه بالحواس والنوافذ العقلية للفئة التي تسعي للتمكين لدين الله عز وجل، والفئة التي تفتقد المعرفة بفقه الواقع في عالم اليوم فئة تعيش فيما يشبه مدارس الصم والبكم.

ومن هنا نقول: إن النفرة للتخصص في شعب المعرفة، وإحياء الفروض الكفائية، والنزول إلى الميدان والانخراط بالمجتمع هو من فقه الدين قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [5].

لذلك نقول: إن الانخراط في المجتمع، والاندماج فيه، والتعرف على مكوناته ومؤثراته، ودراسة الظواهر الاجتماعية، ومعرفة أسبابها، والمساهمة في دوائر الخير، ومحاولة التوسع فيها، على هدى وبصيرة، وعدم تشكيل أجسام بعيدة عن المجتمع، منفصلة عنه، وإقامة هياكل وكيانات وخيام خارج المجتمع والحياة، أو السير خلف المجتمع ورصد تصرفاته والحكم عليها، بدل الدخول في المجتمع وإغرائه بفعل الخير، هو سبيل الخروج ومعاودة إخراج الأمة من جديد.

وكل ذلك لا يتأتي إلا بعلم وفقه الواقع ،لقد أصبح "الوعي بالواقع"، أو "فقه المجتمع"، علم له أدواته ووسائل قياسه، بل نستطيع أن نقول: إنه أصبح خلاصة لمجموعة علوم إنسانية واجتماعية وتاريخية، ولم تعد تنفع معه النظرة العابرة، أو الملاحظة الآنية، أو الأُمنية المخلصة.

وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد بأن علوم فقه الواقع تتقدم بسرعة، وتتأصل بشكل مذهل، وتتشعب إلى شعب تخصصية دقيقة، في محاولة لتغطية جميع مساحات الحياة... ففي علم الاجتماع والمجتمع بات هناك علوم اجتماع متنوعة بحسب موضوعاتها في الميادين السياسية والاقتصادية..

وعلوم الإنسان بلغـــت شأوًا، وبــدأت تضــع يـدها على حقائق لا يمكـن تجــاهـلها ولا تجاوزها.. وعلم النفس يتقدم ليدخل المواقع كلها، ويحتل مكانه، ويدلي بشهادته على كل حالة، ولعلنا نقول: إنه تجاوز إمكانية قراءة الحاضر إلى محاولة صناعة المستقبل، وتحضير الناس له بزرع اهتماماتهم وتشكيل أهدافهم.

حتى أنه يمكن القول: بأن وسائل وأدوات سبر حقيقة المجتمع، وكشف خفاياه، ومعرفة واقعه، وتحديد وجهاته، أصبحت علوماً، فعلم الإحصاء وحصر الإمكانات والاستطلاعات والمسح والبحث الاجتماعي بوسائل منهجية للتقويم والقياس لم يعد أرقاماً جامدة، وإنما يعبر عن مؤشرات ويحمل دلالات لا يمكن تجاهلها عند أي دراسة أو تخطيط أو تجديد أو تنمية للموارد البشرية والمادية.. فلم يعد علم الإحصاء أداة ووسيلة، وإنما أصبح مقوماً لا يمكن تجاوزه.

حتى أن استطلاع الرأي والتعرف على التحولات الاجتماعية وأسبابها، أصبح علماً وفناً، لا يقتصر على قراءة الحاضر وإنما يتجاوز إلى التأثير فيه والتوجيه له.

وليست الاستبيانات وفنية وضعها وما يطرح فيها من أسئلة، وما يتوصل إليه من نتائج، بأقل شأنًا في فقه الواقع وامتلاك مفاتحه، والدخول إليه من أبوابه، بعيداً عن المجازفات والخبط الأعشى [6].

وفي دول الغرب الآن نجد أن السر في قوتها: "هو تـكـامـل الفكر والسياسة، واعتماد رجال التخطيط والتنفيذ في دوائر السياسة والإدارة على ما يقدمه رجال الفكر العاملون في مراكز البحوث والدراسات خـلال الـلـقــاءات الــدوريــــة التي تجمع بين الفريقين لمناقشة وتقويم القضايا الداخلية والخارجية، ففي بلد كالولايات المتحدة هناك حوالي تسعة الآف مركز بحوث ودراسات متخصصة في بحث شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتربية"... [7].

ج-الوعي بالواقع وفتح الملفات
تتبني حركة الإحياء الإسلامي التي تسعي للتمكين لدين الله في الأرض سياسة فتح الملفات، وسياسة فتح الملفات في الواقع هو أننا نقوم بفتح ملفات للموضوعات الهامة والشائكة التي تواجه الأمة وتواجه الفئة المسلمة، ونترك هذه الملفات مفتوحة لاستيعاب المستجدات الطارئة والمتغيرات الحادثة في مثل هذه العقبات والتحديات، والهدف من فتح الملفات هو "حل المغاليق المختلفة التي تواجه العمل الإسلامي" و"اكتساب للخبرة اللازمة للعمل الإسلامي للتعاطي وفق المتغيرات المختلفة"، حتي يستطيع العمل الإسلامي مواكبة المتغيرات وبإذن الله يكون هو البادئ بصناعة الحدث وليس المستقبل له، فضلاً عن ضرورة تواجد "العمل الإسلامي" في ساحة العمل، وحتى لا يفاجئ العمل الإسلامي بمشاكل لم تكن في الحسبان عند الوصول إلى التمكين بإذن الله.

والملفات التي ينبغي أن تفتح كثيرة ومتجددة حسب حاجة العمل الإسلامي فهي ليست ملفات ورقية، ولذلك فسياسة فتح الملفات ينبغي أن تكون سياسة عملية وليست نظرية وإن كان الدور النظري له بعد ليس بالهين، ولكن البُعد الواقعي في فتح الملفات يضفي علي فتحها مصداقية ويساعد في إيجاد الحلول الصحيحة بعيداً عن التنظير الأجوف، وعي سبيل المثال فعند فتح ملف ( للنصارى) في البلدان التي تعلو فيها وتيرة الصراع مع النصارى والصراع الطائفي مثل مصر والسودان ولبنان وغيرها من الدول علي سبيل المثال ينبغي أن نكون متابعين لآراء وشبهات النصارى من خلال مواقعهم، ومن خلال غرف البالتوك المختلفة والتعرف علي شبهاتهم التي يثيرونها بين الفينة والأخرى، والتعرف علي مؤسساتهم وتواجدهم في الأحزاب وتسليحهم ودرجة استفزازهم لمسلمين.

ومثل ذلك الخطاب العلماني والتطور الحادث فيه ونوعه إن كان خطاب واضح غير ملتبس أو خطاب ملتبس مموّه غير واضح، وذلك حتي لا تخدع الفئة المسلمة وهي لا تدري أو يسرق كفاحها، نتيجة غفلة أهل الحق عن تدبير وسوء أهل الباطل [8].

وقس علي ذلك باقي الملفات التي ينبغي أن تفتح، ولا شك أن هذا يتطلب من العاملين للإسلام (امتلاك القدرة على فقه الـتـعــامــــل مـــع المجتمعات، والانفتاح المتزن أكثر، وفـتــــح منافذ جديدة للدعوة، وامتلاك قدر أكبر من المرونة، مع الإبصار الكامل والدقيق والأمين للأهداف، والتقدير للإمكانيات.. ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن يكون دعاة الإسلام دمـــــاً جـديـــداً فـي قوة الباطل، أو أن يوظف الإسلاميون لغير الأهداف الإسلامية، وإنما يعني: النزول إلى الساحة، وفهم واقع الناس؛ حتى يجيء الأخذ بيدهم ثمرة لهذا الفهم، ذلك أن الناس هم محل الدعوة، وهم جديرون بالشفقة والإنقاذ [9].

ويحتاج علم الوعي بالواقع وفقهه إلى شيئين مهمين:
أ- سعة الاطلاع:- نظرا لتشعب هذا العلم وشموله، فيحتاج المتخصص فيه إلى كثير من الفنون، سواء العلوم الشرعية كالعقيدة والفقه، أو العلوم الاجتماعية كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة كالسياسية والإعلام، وهلم جرا. وإذا قصر في أي علم من هذه العلوم أو غيرها مما يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلبا على قدرته على فقه الواقع، وتقويم الأحداث، والحكم عليها.

ب- التجدد والاستمرار: فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة، والبحث في كل جديد، فهو يختلف عن كثير من العلوم - كما بينت آنفا -، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث، ودراسة أحوال الأمم والشعوب، فلو انقطع عنه فترة من الزمن أثر على تحصيله، وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها. فهو أشبه بالطبيب الذي يلزمه أن يتابع كل جديد في مهنته، فلو أن طبيبا تخرج في الجامعة منذ عشر سنوات، بقي يعالج الناس من خلال دراسته الماضية، دون النظر لما استجد من مخترعات في وسائل العلاج، وما اكتشف من أدوية، لأصبح طبيبا متخلفا عن الركب، فجديد اليوم يصبح قديما في الغد وهكذا.

ولا أبالغ إذا قلت: إن الذي ينقطع عن متابعة الأحداث بضعة أشهر يحتاج إلى فترة مكثفة ليتمكن من ملاحقة الأحداث من جديد، وبخاصة في عصرنا الحاضر، الذي أصبح فيه العالم كقرية واحدة صغيرة، ما يقع فيه شرقه يؤثر يوميا في غربه، وإذا وقع حادث ذو بال في أمريكا أثر على أسواق اليابان في اليوم نفسه، وارتفاع الأسهم في (وول ستريت) بلندن، يؤثر على قيمة الفول في البرازيل [10].

* الآثار المترتبة علي تجاهل فقه الواقع
إذا تجاهلت الواقع تمامًا فربما فاتك:
1- سد الذرائع:- وهى قاعدة أصيلة وركن ركين من أركان الشريعة [11]، كذلك وقعت في كثير من الزلل بسبب عدم النظر في المآلات والنظر في المآلات معتبر شرعًا وبه تصح الفتوى [12].

2- اعتبار المناط الخاص:-
فكل رسول يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وايجاب الفرائض والنهى عن المحرمات. وهناك محرمات أبدية خالدة لا تختلف من رسالة إلى أخرى، وهناك فرائض لا تخلو منها رسالة، ومع ذلك نجد أن القرآن يركز على قضايا معينة في رسالات معينة. والرسول من غير شك في سبيل بيان القواعد الشرعية يتناول كل المحرمات وكل الفرائض ويضعها في مكانها الصحيح في نطاقها الديني، وفي معالجة الانحرافات الواقعية ينشغل بقضايا معينة هى الانحرافات القائمة بالفعل وليس غيرها بحيث تكون هى ودعوة التوحيد صلب حواره معهم، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [13]، ومثل هذا مع قوم لوط، مع اختلاف الانحرافات.

ويقول الشاطبى في (الموافقات): "فمن ذلك أن النبي صلي الله عليه وسلم سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل".

ففي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام: سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: «إيمان بالله». قيل: "ثم ماذا؟"، قال: «الجهاد في سبيل الله». قيل: "ثم ماذا؟"، قال: «حج مبرور»، وسئل صلي الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟، قال: «الصلاة لوقتها». قال: "ثم أي؟"، قال: «بر الوالدين». قال: "ثم أي؟"، قال: «الجهاد في سبيل الله».

وفي النسائي عن أبي أمامة: أتيت النبي صلي الله عليه وسلم فقلت: مرنى بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له»، وفي الترمذي: أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»، وفي البزار: أي العبادة أفضل؟ قال: «دعاء المرء لنفسه»، وفي الترمذي: «ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن»، وفي الصحيح: «وما أعطى أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر»، وفي الترمذي: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وفيه: «أفضل العبادة انتظار الفرج»، إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق، ويشعر إشعارًا ظاهرًا بأن القصد إنما هو بالنسبة للوقت أو إلى حال السائل.

وقد دعا عليه الصلاة والسلام لأنس بكثرة المال فبورك له فيه وقال لثعلبة: «قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه»، وقال لأبى ذر: «يا أبا ذر إنى أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسى؛ لا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم»، ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله، وقد قال في الإمارة والحكم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن»، وقال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»، وفي الصحيح: أن أناسًا جاءوا إلى النبى صلي الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: «وقد وجدتموه»؟»، قالوا: نعم، قال: «ذلك صريح الإيمان»، وفي حديث أخر: «من وجد من ذلك شيئًا فليقل آمنت بالله»، وعن ابن عباس في مثله قال: «إذا وجدت شيئًا من ذلك فقل: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شى عليم»، فأجاب بأجوبة مختلفة والعارض كله واحد.

وقبل عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ماله كله، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك»، وجاء آخر بمثل بيضة من الذهب فردها في وجهه. وعن أبي رجاء العطاردي قال: قلت للزبير بن العوام: "مالي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة؟"، قال: "نبادر الوسواس". هذا مع أن التطويل مستحب ولكن جاء ما يعارضه، إلخ[14].

ويعرف الشاطبى هذا المناط الخاص فيقول: "هو نظر في كل مكلَف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائـل التكليفية؛ بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلـة حتى يلقيها ـ يقصد التكاليف ـ هذا المجتهد على ذلك المكلَف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره، ويختص غير المنحتم بوجه آخر: وهو النظر فيما يصلح بكل مكلَف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك" [15].

جـ- تجاهل الواقع ربما أدى إلى تقديم الإسلام للناس في صورة نظرية مجردة لا ترتبط ارتباطا وثيقًا بالحياة والسلوك اليومي، وهذا على العكس من طريقة القرآن {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [16] الذى أخرج للناس عقيدة من خلال حركة الجماعة وأحداثها وصراعها مع غيرها ونموها وتفاعلها مع نفسها وغيرها.. وأخرج للناس جماعة من خلال تأصيلات العقيدة وتوجيهاتها.

فربط بين الحدث والتوجيه ربطًا دقيقًا مع الحفاظ على تجرد توجيهات العقيدة وقوة تأصيلها إذا ما أردت أن تستخلصها من التنزيل، وهذا أمر في منتهى الأهمية [17].

-----------------------------------
[1]- فقه الواقع د.ناصر العمر، وانظر (فقه الواقع أصــول وضوابط) للأستاذ أحمد بوعود كتاب الأمة عدد 75.
[2] - [ سورة الأنعام آية: 55].
[3] فقه الواقع د.ناصر العمر.
[4] - صناعة الفكر مجلة البيان عدد 28.
[5] - [التوبة: 122].
[6] - الأستاذ عمر عبيد حسنة مقدمة كتاب الأمة (فقه الواقع أصـــــــــــــول وضوابط) عدد75.
[7] - ماجد عرسان الكيلاني (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس) 282.
[8] - انظر مبحث "ثوابت في إحياء الأمة" للباحث تحت الإعداد.
[9] - د.محمد محمد بدري (تحت رأية أهل السنة والجماعة).
[10] - فقه الواقع للشيخ ناصر العمر، ورغم كونه مبحث صغير في الحجم إلا أنه يحوي فوائد كثيرة جداً.
[11] - راجع أعلام الموقعين لابن القيم.
[12] - راجع الموافقات، الجزء الرابع.
[13] -[هود: 84-86].
[14] - الموافقات، جـ4، ص 99-103. بتصرف يسير.
[15] - الموافقات، جـ4، ص 98.
[16] - [الاسراء: 106].
[17] -انظر (آداب يتحلى بها الداعية والباحث ومبادئ يلتزم بها) من مقدمة كتاب "حد الإسلام وحقيقة الإيمان" للشيخ عبد المجيد الشاذلي.








المصدر: طريق الإسلام