تسبيح الكائنات والجمادات بحمد ربها

أبو حاتم سعيد القاضي

ألا تعلم أن كلَّ ما حولك من الجمادات والجبال والشجر والدواب وكلَّ ما خلق الله قد أُلهِم التسبيحَ بحمد ربنا الجليل سبحانه، إلا البشر، فهم في غفلةٍ ولهوٍ؟

  • التصنيفات: التقوى وحب الله -

سبحانك ربي ما أعظمَك، أسبحك ربي ما دام فيّ عرقٌ ينبِض، أنزهك ربي وأُجِلُّك عن جميعِ النقائص، وأحمَدك بأنواع الكمالات، تنزهت ربي عن كل عيبٍ، تقدست أسماؤك، وجلَّ ثناؤك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

لقد كرم الله الإنسانَ وفضله على كثيرٍ ممن خلق، لكن هذا الإنسان في غفلةٍ ولهوٍ عن عبادة ربه، الكون من حوله يسبحُ بحمد ربه، الجبال تخشعُ لعظمة آياته، الحجارة تهبِط إجلالًا وخشوعًا لربها، بينما الإنسان غارقٌ في شهواته وملذاته، معرض عن ربه.

هل استشعرت يومًا أن الطيورَ في السماء تسبح ربها؟

هل خطر على قلبِك أن الطعامَ الذي تأكله والثوبَ الذي تلبَسُه يسبح بحمد ربه؟

أما بلغَك أن صوتَ الرعد الذي يملأ القلوب فزعًا إنما هو تسبيحٌ بحمد الله سبحانه؟

ألا تعلم أن كلَّ ما حولك من الجمادات والجبال والشجر والدواب وكلَّ ما خلق الله قد أُلهِم التسبيحَ بحمد ربنا الجليل سبحانه، إلا البشر، فهم في غفلةٍ ولهوٍ؟

قال تعالى:  {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].

وقال ربنا:  {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]. نعم، كل شيءٍ يسبح بحمد الله، إن من رحمته بك أنك لا تسمع تسبيحَ الجمادات من حولك، وإلا ما استطعت العيشَ في هذه الحياة، فإن الثوبَ الذي تلبسه يسبح، والحذاءَ يسبح، والطعام يسبح، والماء يسبح، والجدار يسبح، والأرضَ التي تمشي عليها تسبح، فهل تستطيع الحياه لو سمعتَ كلَّ هذا التسبيح؟

وفي كتاب الله خمس سور أتت مطالعها تقرر هذا المعنى؛ ففي سورة الحديد قال الله تعالى: { {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} } [الحديد: 1].

وفي سورة الحشر قال الله تعالى: { {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} } [الحشر: 1].

وفي سورة الصف قال الله تعالى: { {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} } [الصف: 1].

وفي سورة الجمعة قال الله تعالى: { {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} } [الجمعة: 1].

وفي سورة التغابن قال الله تعالى: { {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} } [التغابن: 1].

1- تسبيح الملائكة:

قال الله تعالى: { {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} {} } [البقرة: 30].

وقال سبحانه: { {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} } [الأنبياء: 19، 20].

وقال سبحانه: { {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} } [فصلت: 38].

وقال سبحانه: { {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} } [الزمر: 75].

وقال سبحانه: { {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} } [غافر: 7].

إنهم يسبحون ليلًا ونهارًا، صباحًا ومساءً، لا ملل، ولا تعب، ولا ضجر، قد ألهمَهم الله التسبيح، ففيه راحتُهم وسعادتُهم.

عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " «أذن لي أن أحدث عن ملك، قد مرَقَت رجلاه الأرضَ السابعةَ، والعرشُ على مِنكَبِه، وهو يقول: سبحانك أين كنتَ؟ وأين تكونُ» " ([1]).

وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «ما في السماواتِ السبع موضعُ قدَمٍ، ولا شبرٍ، ولا كفٍّ، إلا وفيه مَلكٌ قائمٌ، أو ملكٌ ساجدٌ، فإذا كان يومَ القيامةِ قالوا جميعًا: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتِك، إلا أنا لم نشركْ بك شيئًا» " ([2]).

2- تسبيح الرعد:

قال الله تعالى: { {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} } [الرعد: 13].

وعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، أنه كان إذا سمعَ الرعدَ ترك الحديثَ وقال: سبحان الذي يُسبِّحُ الرعدُ بحمدِه والملائكةُ من خيفتِه، ثم يقولُ: إن هذا لوعيدٌ شديدٌ لأهلِ الأرضِ ([3]).

عن عكرمة رحمه الله، أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سمعَ صوتَ الرعدَ قال: سبحان الذي سبَّحت له، قال: إن الرعدَ مَلكٌ ينعِقُ بالغَيث، كما ينعِق الراعي بغنمِه ([4]).

وروي عن ابن عباس قال: أقبلت يهودُ إلى النبيِّ r، فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا عن الرعدِ، ما هو؟ قال: "مَلكٌ من الملائكةِ مُوكَّلٌ بالسحابِ معه مخاريقُ من نارٍ يسوقُ بها السحابَ حيث شاءَ الله"، فقالوا: فما هذا الصوتُ الذي نسمعُ؟ قال: "زجرةٌ بالسحابِ إذا زجرَه حتى ينتهِي إلى حيث أُمِرَ" ([5]).

3- تسبيح الطيور والجبال:

قال الله تعالى: { {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} } [النور: 41]. تصُفُّ الطيرُ أجنحتَها، وتمشي ذرفاتٍ ووحدانًا تملأ الدنيا تسبيحًا بحمد ربنا سبحانه، كلٌّ قد أرشده ربُّه إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل، فسبحان من كل شيء خاضعٌ لأمره، ومُسبِّحٌ بحمده.

وقال جل شأنه: { {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} } [سبأ: 10]. قال العلماء: { {أَوِّبِي} {} }: رجِّعي معه مُسبِّحةً معه. وقال سبحانه: { {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ}  } [الأنبياء: 79]. وقال سبحانه: { {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} } [ص: 18، 19].

قال العلماء: فكان عليه السلام إذا مرتْ به الطيورُ السارحاتُ، والغادياتُ والرائحاتُ، فسمعتْه يترنَّمُ بقراءةِ الزبورِ لا تستطيعُ الذهابَ، بل تقفُ في الهواءِ، وتُسبحُ معه بأنواعِ اللغاتِ، وتُجيبُه الجبالُ الراسياتُ، الصمُّ الشامخاتُ، تُرجِّعُ معه، وتُسبِّحُ تبعًا له.

4- تسبيح الطعام:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نعُدُّ الآياتِ بركةً، وأنتم تعدونها تخويفًا، كنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فقلَّ الماءُ، فقال: "اطلبوا فَضْلةً من ماءٍ"، فجاءوا بإناءٍ فيه ماءٌ قليلٌ، فأدخل يدَه في الإناءِ، ثم قال: "حيَّ على الطَّهورِ المبارَكِ، والبركةُ من الله"، فلقد رأيتُ الماءَ ينبُعُ من بين أصابعِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمعُ تسبيحَ الطعامِ وهو يؤكَلُ ([6]).

عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: إني لشاهدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة، وفي يده حصى، فسبحن في يدِه، وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فسمع تسبيحَهن من في الحلقةِ، ثم دفعهن النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكرٍ، فسبحن مع أبي بكرٍ، سمع تسبيحَهن من في الحلقة، ثم دفعهن إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسبحن في يده، ثم دفعهن النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى عمر، فسبحن في يده، وسمع تسبيحَهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فسبحن في يده، ثم دفعهن إلينا، فلم يُسبِّحن مع أحدٍ منا ([7]).

وعن قيس بن أبي حازم رحمه الله قال: كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر قال له: بآية الصحفة، وذلك أنهما بَيْنَا هما يأكلان في صَحْفَةٍ إذ سبحت وما فيها ([8]).

ما أغفل ابن آدم كل شيء حوله في الوجود يسبح بحمد الله وهو غافلٌ لاهٍ، هذه الثياب التي تلبسها، وهذه الجدران التي من حولك، بل هذا الطعام الذي تأكله، كل هذا يسبح الله عز وجل، لكن من رحمة الله بنا أننا لا نسمع تسبيحها وإلا ما استطعنا العيش.


 ([1]) إسناده صحيح، وغمز فيه بعضهم: أخرجه الحاكم (4/ 297)، وأبو يعلى في "مسنده" (6619)، وهو في "الصحيحة" (23). "قد مرقت رجلاه الأرض": أي وصلتا إليها وخرقتاها من جانبها الآخر.

 ([2]) إسناده ضعيف، ولبعضه شواهد: أخرجه الطبراني في "الكبير" (1751)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1403). وفيه عروة بن مروان، قال الدارقطني وابن ماكولا: ليس بالقوي. وانظر: "اختلاف المحدثين" (31).

 ([3]) صحيح: أخرجه أحمد في الزهد (1115)، والبخاري في الأدب المفرد (723).

 ([4]) حسن: أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (722)، وفي سنده موسى بن عبد العزيز مختلف فيه، لكنه له طرق يقوى بها.

 ([5])صححه بعض العلماء، وأراه معلول: أخرجه الترمذي (3117)، وأحمد (1/ 274). وهو معلول بالوقف.

 ([6]) أخرجه البخاري (3579). "الآيات": الأمور الخارقة للعادات. قال ابن حجر: أنكر عليهم عد جميع الخوارق تخويفًا، فبعضها يكون بركةً من الله كشبع الخلق الكثير من الطعام القليل، وبعضُها يكون تخويفًا من الله ككسوف الشمس. "حيَّ على الطهور المبارك": تعالوا وتطهَّروا بالماء الذي نما وزاد بفضل الله تعالى.

 ([7]) أخرجه الطبراني في الأوسط (1244). وظاهر سنده الحسن، وله طرق أخرى فيها مقال، فالله أعلم.

 ([8]) أخرجه البيهقي في "الدلائل " (6/ 63). وفيه مجاهيل.