الهجرة من المدينة إلي العالم كله

عبد الحليم عويس

ها هم صحابة رسول الله يهجرون الوطن والدور والأموال، ويضرِبون في الأرض؛ تارة إلى الحبشة، وتارة إلى المدينة، ومن المدينة إلى شتى الأمصار؛ من دمشق إلى بغداد، إلى مصر والمغرب، إلى بلاد ما وراء النهر.

  • التصنيفات: محبة النبي صلى الله عليه وسلم - سير الصحابة -

ها هم صحابة رسول الله يهجرون الوطن والدور والأموال، ويضرِبون في الأرض؛ تارة إلى الحبشة، وتارة إلى المدينة، ومن المدينة إلى شتى الأمصار؛ من دمشق إلى بغداد، إلى مصر والمغرب، إلى بلاد ما وراء النهر.

 

لقد حملوا في قلوبهم كتاب الله بقوة، وضموه إلى صدورهم، وكأنه كان يتنزَّل عليهم، وإياهم جاء يخاطب؛ يحرصون عليه حرْصهم على ماء عيونهم، ويرومون إيصال رسالته إلى كل إنسان في أي مكان في العالم، حتى لو خاضوا إليه أشدَّ البحار نأيًا واستيحاشًا.

 

ولقد قال عقبة بن نافع - رضي الله عنه - وهو على شاطئ المحيط: لو علِمت أن وراء هذا البحر ناسًا، لخُضت البحر إليهم؛ لأُبلِّغهم رسالة الإسلام.

 

وكما يقول صديقنا الكاتب الإسلامي التركي المبدع (أديب الدباغ):

لقد ذهب المسلمون إلى العالم؛ لا لنشر الإسلام بين الآخرين فحسب، ولكن للإصلاح العقلي والرُّوحي الذي ينشده هؤلاء الفِتية لأنفسهم وللآخرين، وهم في الوقت نفسه يُبشرون بطريقة جديدة للحياة، يتعاون فيها "العقل القرآني" - إذا صحَّ التعبير - مع جِدَّة التجربة، وشدة المعاناة التي تُنقذ الإنسان من السطحية والتفاهة.

 

وها هم الصحابة قد ضربوا في الأرض؛ لا يعرفون جبالاً إلا قطَعوها، ولا بُلدانًا إلا زاروها؛ لكي يُخرجوا الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، أو كما قال الصحابي (رِبعي بن عامر) لرُستم قائد الفرس: لقد ابتَعثنا الله؛ لنُخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحْده، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة.

 

والداعية من هؤلاء الفتية - المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين - سهل ٌهيِّن لَيِّن؛ لا يبني حول نفسه جدارًا عقليًّا أو نفسيًّا، ولا يحيط نفسه بهالة فخمة لا يستطيع الآخرون أن ينَفُذوا منها إليه، بل هو على استعداد دائم لقَبول الآخرين، والاستماع إلى آرائهم، والإفادة من تجاربهم بكل صدقٍ وحميميَّة.

 

وعندما هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة في السابع عشر من صفر من السنة الرابعة عشرة للبعثة، لم يَهجُر قريشًا ولا بني هاشم، فلقد كان يحب الجميع ويتمنى لهم الهداية والخير، كما أنه - وهو الوفي - لَم ينسَ لبني هاشم - مسلمهم وكافرهم - مواقفهم معه، عندما قادتهم عصبيَّة الرحم فحمَوه من كل القبائل، ودخلوا معه شعِب بني هاشم؛ يقاومون معه ومع المسلمين الجوعَ والفاقة، ولا يمنُّون عليه بذلك، مع أنهم على غير دينه، لكنه الولاء الأصيل الموروث للأرحام.

 

لقد نظر إلى مكة مُلتفتًا إليها مودِّعًا، وقال: إنك أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ؛ ولولا أن أهلك أخرجوني منك، ما خرَجت، (هذا مع كل ما عملوه فيه، لكنه وفاؤه العظيم للوطن - عليه السلام).

 

♦ ♦ ♦

إنه من الضروري أن يَفقه المهاجرون في عصرنا معاني هجرة الرسول والصحابة؛ فهي كتاب مفتوح، عليهم أن يُمعنوا القراءة فيه؛ ليدركوا منه أن هجرتهم من بلادهم لأي سببٍ من الأسباب، لا تعني القطيعة مع أرض الوطن، ولا مع الأهل والعشيرة، ولا مع المسلمين في أي مكان، مهما تكن الخلافات الظرفية الطارئة بينهم، بل يجب أن تبقى الصلة قائمة بينهم وبين الأهل والقوم، لا سيما ووسائل التواصل الآن في أقوى مستوى عرَفته البشرية - (عن طريق الهاتف والإنترنت، والبريد السريع الدولي، وغيرها) - وبالتالي يكونون قد وصلوا الأرحام، وجمعوا بين الثلاثية المتكاملة، التى تُمثل بأركانها الثلاثة وحدة لا تَنفصِم، وإلا فقَدت الأمة مكانتها الخيرية التي رفعها الله إليها عندما قال:

{كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَو آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيراً لَهُم مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُم الْفَاسِقُونَ}   [آل عمران: 110].

 

وعندما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً} [البقرة: 143].

 

إنها ثلاثية: الإيمان، والهجرة، والاجتهاد.

 

♦ إن الهجرة الإسلامية اليوم إلى أي بلد في العالم، (إذا صح أنها هجرة ذات نية إسلامية وهدف إسلامي)، ولو كانت لطلب الرزق؛ (فإنما الأعمال بمقاصدها الشرعية وبنيَّاتها)، يجب أن تكون هجرة تسعى إلى التواصل والتعارف، والتحاور والحب، مع أهل الماضي والتراث من الوطن والرحم؛ بحيث يشعر كل الناس أن الأفراد المسلمين والمجموعات الإسلامية التي تعيش بينهم، إنما تمثل رُوحًا جديدة لها أصالتها وعَراقتها؛ تبني ولا تَهدِم، وتَزرع الخير وتقاوِم الشر، ولا تعرف التفرقة في ذلك بين المسلمين وغير المسلمين، والوطني والوافد، والأبيض والأسود.

 

♦ وكل ذلك لن يتحقق إلا إذا رأى الناس في المسلم المهاجر إليهم - من خلال أقواله، وأفعاله، وإسهاماته الخدمية، وآفاقه المعرفية، وعبوديته لله - شخصية متميزة جادة، تفعل ما تقول، وتعيش معهم حياتهم اليومية، وآمالهم وآلامهم؛ وفيَّة كل الوفاء لماضيها، حريصة على قِيَمها وجذورها.

 

♦ ومع الالتزام بهذا السلوك الرفيع، فإن على المسلم ألا يتوقَّع أن يكون الطريق مفروشًا بالورود؛ فإن طبيعة الدعاة إلى الله أن يَجدوا مقاومة من أهل الباطل.

 

وهنا يظهر الداعية الحقيقي، ويَرسُب مَن يرسب، ويَنجح من ينجح!!

 

♦ ♦  ♦

لقد مكَرت قريش بالرسول وتجمَّعت لقتْله، ومكَر الله لرسوله؛ فقد نزل جبريل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من ربه - تبارك وتعالى - فأخبره الله بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذِن له في الخروج، وحدَّد له وقت الهجرة، وبيَّن له خطة المواجهة لمؤامرة قريش، فقال له جبريل: لا تَبِت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تَبيت عليه.

 

وقد أحاطت قريش - من خلال الممثلين الفتيان الأشداء للقبائل من الشباب - ببيت رسول الله، لكن خطتهم فشِلت فشلاً ذريعًا، مع غاية المراقبة والتيقُّظ والتنبُّه.

 

لقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم من البيت واخترَق صفوفهم، وأخذ حَفنة من التراب، فجعل يَذروها على رؤوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه، فلا يرونه، وهو يتلو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَينِ أَيدِيهِم سَدّاً وَمِن خَلْفِهِم سَدّاً فَأَغْشَينَاهُم فَهُم لا يبْصِرُونَ} [يس: 9]، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فخرَجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً، حتى لحِق الاثنان بغار ثَوْر في اتجاه اليمن، وبقِي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر وهم لا يدرون أن مكرهم كان مكر سوء، ولا يَحيق المكر السيئ إلا بأهله!!

 

وكانوا كلما تطلَّعوا من كَوَّة الباب، رأوا إنسانًا غير موضح المعالم يَنام على سرير الرسول، فقالوا: والله، إن هذا لمحمد نائم، عليه بُرده، فلم يَبرحوا كذلك حتى أصبحوا، وقام على عن الفراش متثائبًا كأنهم لا يُحيطون به، ولا يتعرَّض لخطر الموت؛ لأنه كان يثق ثِقة كاملة في قول الرسول له: "إنهم لن يصيبوك بأذًى".

 

ولَمَّا سألوه عن رسول الله، قال: لا علم لي به.

 

وقد غادر رسول الله بيته في ليلة 27 من شهر صفر، سنة 14 من النبوة، الموافق 12 / 13 سبتمبر 622م)، وأتى دار رفيقه الذي كان أقرب المؤمنين إليه، والذي بذل في سبيل الله كل ماله - أبي بكر الصديق رضي الله عنه - ثم غادرا منزل الأخير من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجلٍ، قبل أن يطلُع الفجر.

 

♦ ♦ ♦

وثمة ومضات وعِبَر في الهجرة  نُكررها في كل عام، لكننا نمر عليها مرور الغافلين..

 

إنه - عليه السلام - قد استأجر وثنيًّا هو (عبدالله بن أريقط)؛ ليكون دليل الرحلة، ليضع حجر الأساس في علاقة دولة المدينة الواعدة الجديدة بالعالم، فهي دولة غير معقدة؛ لا تحمل أحقادًا، ولا تعرف عنصرية، لا دينية ولا جنسية، وهي تمدُّ يدها إلى العالم منذ البداية، في حوار حضاري تتكامل فيه الخبرات، ويقع التعارف الصحيح، القائم على التكامل لا الصراع.

 

وقد أخذ الدليل (الوثني: ابن أريقط) - ليثرب - طريقًا غير الطريق المألوف، فاتَّجه إلى يثرب عن طريق اليمن لا الشام؛ مما يؤكد فراسة النبي في أن أهل الكفاءة يجب أن يُقدَّموا على أهل الثقة والولاء، مع استخدام أهل الثقة في مواضع محددة، لا يشركهم فيها أحد، وبهما معًا تسير الحياة صعودًا إلى الأمام.

 

لقد مشى الرسول في هذا الطريق نحو خمسة أميال، حتى بلغ جبلاً يعرف بجبل ثور، وهو جبل شامخ، وَعْر الطريق، صعب المرتقى، مليء بالصخور والأحجار الكثيرة، فحفِيت قدما رسول الله، وقيل: بل كان يمشي في الطريق على أطراف قدَميه؛ كي يخفي أثره، فحفِيت قدماه، وأيًّا ما كان، فقد أعانه أبو بكر حتى بلغ به الجبل، وطفِق يشتد به حتى انتهى به إلى غار في قمة الجبل الذي عُرِف في التاريخ (بغار ثور).

 

فمكثوا ثلاث ليالٍ، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وكان عبدالله بن أبي بكر يَبيت عندهما، وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيَدَّلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيُصبح مع قريش بمكة كبائتٍ معهم، فلا يسمع أمرًا يكيدون به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.

 

وكان يرعى عليهما عامر بن فُهَيرَة مولى أبي بكر، فيعطهما مِنْحَة من غنم، فيُريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل - وهو لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِهما، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبدالله بن أبي بكر بعد ذَهابه إلى مكة؛ ليُعفي عليه، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتي بالطعام والشراب...

 

أما قريش، فقد جن جنونها حينما تأكَّد لديها إفلات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صباح ليلة تنفيذ المؤامرة، فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليًّا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة؛ علهم يظفرون بخبرهما، وكان هذا منتهى إيذائهم لعلي.

 

ولما لم يحصلوا من علي على جدوى، جاؤوا إلى بيت أبي بكر وقرَعوا بابه، فخرَجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشًا خبيثًا - فلطَم خدها لَطمة طرَح منها قُرطها.

 

وقد وضعت قريش جميع الطرق النافذة من مكة تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدلاً عن كل واحد منهما، لمن يعيدهما إلى قريش حيَّين أو ميِّتَين، كائنًا من كان.

 

وقد وصل بعض المطاردين إلى باب الغار، ولكن الله أغشى أبصارهم؛ روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار، فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: " «اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما» ، وفي رواية: «ما ظنُّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما».

 

وقد كانت هذه معجزة أكرم الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقد رجع المطاردون حين لم يبقَ بينه وبينهم إلا خطوات معدودة، فلما توقَّفت أعمال الملاحقة والتفتيش، وهدأَت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيَّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه للخروج إلى المدينة.

 

ولحرص أبي بكر على سلامة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعداده لأن يَفديه برُوحه؛ فقد رفض أن يدخل الرسول إلى الغار قبله، وقال: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسَحه، ووجد في جانبه ثقوبًا، فشقَّ إزاره وسدَّها به، وبقِي منها اثنان، فألقمهما رِجليه، ثم قال لرسول الله: ادخل، فدخل رسول الله، ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدِغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن يَنتبه رسول الله، فسقَطت دموعه على وجه رسول الله، فقال: "مالك يا أبا بكر؟"، قال: لُدِغت، فداك أبي وأمي، فتفَل رسول الله  في موضع الألم والداء، فذهب ما يجده.

 

وكانا قد استأجرا عبدالله بن أُرَيقِط الليثي كما أشرنا، وكان هاديًا خِرِّيتًا - ماهرًا بالطريق - وكان على دين كفار قريش، وأمِناه على ذلك، وسلَّما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الاثنين - غرة ربيع الأول سنة 1هـ / 16 سبتمبر سنة 622م - جاءهما عبدالله بن أريقط بالراحلتين.

 

وأتتهما أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - بسُفْرَتهما، ونسِيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا، ذهبت لتُعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقَّت نطاقها إلى اثنين، فعلَّقت السفرة بواحد، وانتطَقت بالآخر، فسُمِّيت: ذات النطاقين.

 

ثم ارتحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - وارتحل معهما عامر بن فُهَيرة، وأخذ بهم الدليل - عبدالله بن أريقط - على طريق السواحل، في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يَألفه الناس، اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا.

 

♦ ♦ ♦

وفي الرحلة إلى المدينة كانت هناك مَنقبة أخرى لثاني اثنين: أبي بكر؛ فقد دأب أبو بكر أن يكون رِدفًا للنبي، وكان شيخًا يُعرف، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - شاب لا يُعرف، فيلقى الرجل أبا بكر، فيقول: من هذا الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعني به الطريق، وإنما يعني: سبيل الخير.

 

ومن المعجزات المعروفة أن سُراقة بن مالك لحِق بالرسول وصاحبه؛ ليأخذ الفدية (100 ناقة) من قريش، فلما لحِق بهما، عثَرت به ناقته عدة مرات، فلما تأكد له أن رعاية الله تَحرُسهما، نادى بالأمان، وأعطاه الرسول وعدًا بأن يَلبَس سوار كسرى، وقد ألبسه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته؛ تحقيقًا لنبوءة الرسول - عليه السلام.

 

ومن معجزات الهجرة التي قلما تَحظى باهتمام، والدالة على عظمة الرسول كداعية: أنه أثناء الرحلة لقِي النبي بريدة بن الحصيب الأسلمي، ومعه نحو ثمانين بيتًا - وكانوا على الشرك - فدعاهم الرسول إلى الإسلام؛ فأسلم بريدة وأسلموا، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة، فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه، حتى قدِم على رسول الله  بعد أُحد.

 

وعن عبدالله بن بريدة - يصف النبي في أول انطباعاته عنه - أن النبي كان يتفاءَل ولا يتطيَّر، (وهذا درس لمسلمي اليوم)، فعندما لقي بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم، قال له النبي: «ممن أنت» ؟، قال: من أسلم، فقال لأبي بكر: سلِمنا، ثم قال: "من بني مَن؟" قال: من بني سهم، قال: خرج سهمُك.

 

♦ ♦ ♦

فانظر إلى أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هجرته بأقوى الأسباب مع الاستعانة بالله، وانظر كيف كان تخطيطه - وهو النبي الملهم - مُحكمًا!!

 

وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة - وهي السنة الأولى من الهجرة - الموافق 23 سبتمبر سنة 622م، نزَل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقُباء، وفي هذا اليوم تمَّ عمره - عليه السلام - ثلاثًا وخمسين سنة.

 

وقد سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، فكانوا يغدون كل غَداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أَوَوْا إلى بيوتهم، أَوْفى رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مُبَيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، وتلقَّوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحَرة.

 

قال ابن القيم: وسُمِعت الرجة الشديدة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيَّوه بتحية النبوة، فأحْدَقوا به مطيفين حوله، والسكينة تَغشاه، والوحي ينزل عليه: {فَإِنَّ الله َ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}  [التحريم: 4].

 

وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقُباء على كلثوم بن الهدم أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء، والأربعاء والخميس.

 

وأسس مسجد قُباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أُسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس - يوم الجمعة - ركب بأمر الله له، وأبو بكر رِدفه، وأرسل إلى بني النجار - أخواله - فجاؤوا متقلِّدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانوا مائة رجل.

 

ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الجمعة حتى دخل المدينة - ومن ذلك اليوم سُمِّيت (يثرب) بمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو المدينة، وكأنها لا مدينة غيرها، ولا مدينة مثلها، فنزل عند أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه.

 

ثم بدأ يبني المسجد - (أول دعائم دولة الإسلام) - ويبني بيوته حوله، ويؤاخي بين المهاجرين والأنصار؛ ليصبح المجتمع الإسلامي كله لُحمة واحدة، لا تُفرقه قومية، ولا وطنية، ولا قبيلة، (والمؤاخاة) أزكى صور التلاحم في تاريخ الأديان الإنسانية.

 

ثم ختَم (الصحيفة) التي هي دستور المدينة (الوطن)، الذي يعيش فيه المسلم وغير المسلم في سياج حقوق متكاملة.

 

فعلى الرسول المهاجر الأعظم - باني أعظم دولة، وباعث أعظم حضارة إنسانية - أزكى السلام.