صناعة الرموز

خالد سعد النجار

إن غلبة «الترميز» على المشهد الثقافي والعلمي هي التي جعلت المخرجات في مشهدنا ضعيفة، فهذا السيل الكبير من الخطب والمحاضرات والمقالات والتغريدات لا يصلح منه إلا القليل الذي يصح أن يدخل خانة العمق والفكر والعلم.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

 

 

{بسم الله الرحمن الرحيم }

روى مسلم عن ابْنَ الْمُبَارَكِ، يَقُولُ: «لَوْ خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَبَيْنَ أَنْ أَلْقَى عَبْدَ اللهِ بْنَ مُحَرَّرٍ لَاخْتَرْتُ أَنْ أَلْقَاهُ، ثُمَّ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ كَانَتْ بَعْرَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ»

 

** قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": كان من خيار عباد اللّه؛ إلا أنه كان يكذبُ ولا يعلم، ويقلبُ الأخبار ولا يفهم.

** قال البخاري في تاريخه: عبد الله متروك

** وقال السعدي: هالك

** يقول الإمام مسلم: (وَعَلاَمَةُ الْمُنْكَرِ فِي حَدِيثِ الْمُحَدِّثِ إِذَا مَا عُرِضَتْ رِوَايَتُهُ لِلْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالرِّضَا خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ رِوَايَتَهُمْ أَوْ لَمْ تَكَدْ تُوَافِقُهَا فَإِذَا كَانَ الأَغْلَبُ مِنْ حَدِيثِهِ كَذَلِكَ كَانَ مَهْجُورَ الْحَدِيثِ غَيْرَ مَقْبُولِهِ وَلاَ مُسْتَعْمَلِهِ. فَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ وَيَحْيَى بْنُ أَبِى أُنَيْسَةَ .. وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ فِي رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْحَدِيثِ. فَلَسْنَا نُعَرِّجُ عَلَى حَدِيثِهِمْ وَلاَ نَتَشَاغَلُ بِهِ لأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالَّذِي نَعْرِفُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي قَبُولِ مَا يَتَفَرَّدُ بِهِ الْمُحَدِّثُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَارَكَ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ فِي بَعْضِ مَا رَوَوْا وَأَمْعَنَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ فَإِذَا وُجِدَ كَذَلِكَ ثُمَّ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا لَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ قُبِلَتْ زِيَادَتُهُ)

** قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "وعبد الله بن محرر عامري جزري رقي [من الرقة]، ولاه أبو جعفر قضاء الرقة، وهو من تابعي التابعين، رَوى عن الحسن وقتادة والزهري ونافع مولى بن عمر وآخرين من التابعين، وروى عنه الثوري وجماعات، واتفق الحفاظ والمتقدمون على تركه. قال أحمد بن حنبل: "ترك الناس حديثه" وقال الآخرون مثله ونحوه".

** وابن المبارك فضل رؤية النجاسة على رؤيته.

** وعن عبد الرحمن بن الإمام أحمد قال سألت أبي عن عبد الله بن محرر فقال: متروك الحديث، منكر الحديث، ضعيف الحديث، ترك حديثه عبد الله بن المبارك.

** وعن عبد الرحمن قال سألت أبا زُرعة عن عبد الله بن محرر فقال: ضعيف الحديث وامتنع من قراءة حديثه وضربنا عليه.

** صناعة الرموز وزيف الهالة الإعلامية

الرمز: هو تلك المرجعية التي تمثل الفئات والجماعات وتتجسد فيه مبادئها، وأهم عناصر بزوغ النجم وبروز الرمز هي:

أولاً: «القاعدة الجماهيرية» فإذا كان الرمز يمثل الإطار والمرجعية أو الغطاء الفكري والتوجيه العملي، فإن الانتشار الجماهيري يمثل القاعدة التحتية لهذا الإطار، فبغيرها لا يقوم، وعلى قدر صلابتها أو هشاشتها تكون قوة هذا الرمز أو ضعفه، وربما ضياعه بالكلية كما ضيع الليث بن سعد أصحابه لما لم يحملوه رغم أنه أفقه من مالك حسب اجتهاد الشافعي رحمه الله

ثانيا: «الظرف التاريخي»فكثير من الرموز العبقرية صنعتها الحتمية التاريخية والتي لولاها ما ظهرت تلكم الرموز ولا بلغ ذكرها أسماع الناس مهما كان تميزها، فظرف كاحتلال القدس هو الذي صنع صلاح الدين، وظرف كغزو التتار هو الذي أخرج سيف الدين قطز، وظرف كاحتلال فلسطين هو الذي أظهر عز الدين القسام والشيخ أحمد يس رحمهم الله جميعاً
الثالث: «البيئة المواتية»أو ما يمكن أن نسميه بالبعد الديموجرافي فقد كان مثلا أحد أهم العوامل في نجاح حركة العباسيين في إقامة ملكهم حيث خرجت الحركة من أرض خراسان واعتمدت على أهلها الأشداء الذين لا يعرفون إلا الإسلام والموت في سبيله.

ويعتمد التضليل الإعلامي في صناعة الرمز الزائف على إبهار الشكل رغم هشاشة المضمون، فيما يعرف بـ «فن الإدهاش» وعلى العكس يسقطوا الرمز بما يعرف بـ «فن الصدمة».

«فن الإدهاش» .. لعبة اكتشفتها السينما العالمية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأجادت استخدامها بشكل منقطع النظير في صناعة رموز وشخصيات كثيرة كان لها تأثير كبير في واقع الإنسانية سلبا أو إيجابا، وذلك عن طريق تضخيم الإنجازات والغض عن السلبيات.

«فن الصدمة» .. وهو استثمار إعلامي شهير وخصوصا القنوات الإخبارية والناقلة للحدث اليومي حيث استثمروا «فن الصدمة»في إسقاط الرموز حتى وصل الأمر لإنشاء صحف وقنوات تلفزيونية همها الأول نقل الفضائح (الصحف الصفراء أو الإعلام الأصفر) وخلق صدمات لدى المتلقي بأسلوب مدهش.

فن الإدهاش والصدمة استثمرا كثيرا في صناعة رموز وزرعها في مخيلتنا. وتحويل أنظار البسطاء نحو أهداف معينه .. فكل مؤسسة تريد الترويج لفكرة معينة تقوم في البداية وبشكل تدريجي بإسقاط البديهيات السابقة في عقولنا عن طريق الصدمات الخفيفة ثم تتوالى الصدمات لتنتهي بالضربة القاضية.

في الجانب الآخر تخلق جو من الدهشة لما تريد تسويقه لخلق بديل في نفس المتلقي. فهذا غاندي والذي اعتبر -ومازال يعتبر- رمزا للكفاح السلمي ضد الظلم. في واقعه واحد من أكبر الشخصيات التي مرت على التاريخ عنصرية وأكثرهم تميزا، وقد قتله الهندوس لتطرفه. ومن يعرف بطبقة المدنسين (أكثر من 50 مليون إنسان) في الهند يكتشف أن غاندي كان أكثر من وقف ضد هذه الطبقة ومنعها حتى من التصويت.

وهذا مانديلا رمز الكفاح ضد العنصرية والذي تحدى السجن لمدة 29 عام. وزوجته تقاتل بكل شراسة على كل المحاور في سبيل إيصال صوت زوجها إلى العالم. وقد نجحت في خلق أسطورة مانديلا. فكان جزاءها أن طلقها بعد خروجه من السجن مباشرة.

حتى جيفارا أبيح له ما أنكر على غيره، فالرجل أرجنتيني قاتل في كوبا وأصبح وزير للاقتصاد في كوبا الشيوعية، ويعامل اليوم كرمز عظيم من رموز التحرر والثورة ضد الظلم، وصوره على قمصان الشباب مدعي المدنية والتحرر والفكر الثوري.

بل تطور الموضوع ليقدم لنا الإعلام بعض من الممثلين ولاعبي الكرة كرموز إنسانية عملاقه يقلدها الشباب في كل شيء اليوم.

في صناعة الرمز لا يهم أن تكون معتمداً على قدراته ومواهبه التي تفرضه على الناس فرضاً، فهذه القدرات العلمية والذهنية والإبداعات ليست ضرورية للرمز ولا لحضوره، بل هي خطة محكمة تقوم فرق بصناعتها لتوجيه الأنظار إلى شخص ليكون له الحضور الطاغي في كل محفل، وقد يسهم هذا الرمز نفسه في هذا الحضور بشكل من "الفهلوة" التي تعودنا عليها عند الكثير.

إن غلبة «الترميز» على المشهد الثقافي والعلمي هي التي جعلت المخرجات في مشهدنا ضعيفة، فهذا السيل الكبير من الخطب والمحاضرات والمقالات والتغريدات لا يصلح منه إلا القليل الذي يصح أن يدخل خانة العمق والفكر والعلم.

لقد جعلنا التسابق إلى الحضور والفلاشات والمناسبات والدعوات والحظوة من الناس يخفف من كدنا الفكري لأن هذا ليس له قيمة إذا قبِلنا الناس بعجرنا وبجرنا، فاعتمدنا في إنتاجنا على الثقافة الاستهلاكية التي لا تعطي الحد الأدنى من عوامل النهوض، فالكم ضخم وكبير، والقيمة قليلة ومتقزمة، ثم انعكس ذلك على سلوكنا وتهافتنا على الحضور بالتركيز على الأعداد التي لا تضفي للإنسان قيمة أكثر من كونها مراهقة صبيانية، ولربما اضطر الناس إلى تعمية الحقائق وشراء المتابعين حتى يكون له الحضور الذي يتجاوزه إلى ما وراءه من صنوف التكسبات المالية والمعنوية التي أصبحت جزءا من شخصية الرمز المعاصر، فبت لا تفرق بين التاجر والمفكر في السلوك إلا في الموقع الذي يتكلم فيه هذا ويتكلم فيه هذا.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]