استقامة الرخاء

هذا الإيمان المشروط بالرخاء والسعة والنصرة والتمكين ورغد العيش لا يحبه الله ولا يرضاه، لأنه لم يكن عن صدق في القلب؛ وإنما أدَّاه إليه الاتجاه العام للناس والظروف العامة والخاصة، فهو ليس بإيمانٍ تامٍّ

  • التصنيفات: تزكية النفس -

ما يزال القرآن الكريم يعالج الآفات التي تتلبس بالنفوس المؤمنة وتسوِّد بياضها سعياً في الارتقاء بالنفس الإنسانية إلى مدارج الكمال البشري وحقيقة الآدمية الصالحة.

ومما عالجتْه التربية القرآنية في مواطن متعددة وعبر موضوعات متنوعة: مسألة التراجع الإيماني والانحسار الدعوي في جزئه المتعلق بالإنسان ذاته، ليقوم أهل الإيمان بدورهم في الاستهداء بالقرآن الكريم في معالجة هذه المسألة. ذلك أنَّ القلب يتقلب، وأنَّ الإيمان يزيد وينقص، وأنَّه متعلق بكائنٍ يؤثر ويتأثر، ويستجيب للمؤثرات من حوله ويتفاعل مع المعطيات النفسية والجماعية من حوله؛ فوجب أنْ تكون لأهل الإيمان خطتهم المرسومة في معالجة هذه المسألة.

وأيُّنا يسلم من ذلك وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم  بخضوع المؤمن لهذا التغير في مسيرته الإيمانية؛ فعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ عملٍ شِرَة، ولكل شرَة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك» [1].

انقلب على وجهه!

أسوأ الأحوال أنْ تعقد حلفاً بين الإيمان والمادة، بين الإيمان الذي حقيقته تصديقٌ بالغيب ويقينٌ بما أخبر الله به وتسليمٌ مطلق لله دون تردُّد أو اشتراط أو معرفةِ حِكمة، وانتظارٌ لثواب الآخرة، وفداءٌ في سبيل الله تعالى... وبين ماديات الحياة من رغد العيش والاستظلال بالرفاهية والسير مع الأكثرية والإعجاب بأفواج المقبلين على الدين وانفتاح الدنيا وغياب البؤس والشقاء.

هذا التحالف قدَرٌ ماضٍ، قد أخبرنا الله تعالى بوقوع الامتحان الكاشف له، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10]. قال السعدي: «لما ذكر تعالى أنه لا بد أنْ يمتحن من ادَّعى الإيمان ليظهر الصادق من الكاذب؛ بيَّن تعالى أنَّ من الناس فريقاً لا صبر لهم على المحن، ولا ثبات لهم على بعض الزلازل»[2]. وهذا لا يتأتى إلا في أوقات شدة ومحنة على أهل الإسلام أو بعضهم، كالمدة الأخيرة في العهد المكي التي اشتد الأذى فيها على المسلمين وهو ما أعقبه إذنٌ رباني بالهجرة من مكة.

وقد ذمَّ الله تعالى حال هؤلاء؛ وإنْ كانوا عابدين! فقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْـخُسْرَانُ الْـمُبِينُ} [الحج: ١١]. فهؤلاء دخلوا في الإسلام وعبدوا الله، لكنهم لم يثبتوا على الإيمان لأنهم ربطوا إيمانهم بظروفهم المحيطة، لا بما يعتمل في قلوبهم من محبة الله وخشيته ورجائه.

وهذا الربط المادي هو الحرف الذي وقفوا عليه.

والحرف في قوله تعالى: {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أصله من حرف الشيء وهو طرفه، نحو حرف الجبل والحائط، فهو على طرف وجانب من الدين، لم يدخل فيه على الثبات والتمكن، وأصله كالقائم على حرف الجبل مضطرب غير مستقر، يعرض أنْ يقع في أحد جانبي الطرف لضعف قيامه[3].

وقد تشابهت عبارات المفسرين في التعريف بهذا الصنف من الناس (وإنْ اختلفت ألفاظها)؛ فمنهم من قال بأنهم كانوا من الأعراب؛ كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم  مهاجرين من باديتهم، فإنْ نالوا رخاءً من عيشٍ بعد الهجرة والدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام، وإلا ارتدوا على أعقابهم[4].

ومنهم من قال: نزلتْ في أعرابٍ وقومٍ لا يقين لهم، كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان؛ من نمو ماله وولد ذكر يرزقه وغير ذلك قال هذا دين جيد، وتمسك به لهذه المعاني، وإنْ كان الأمر بخلاف ذلك تشاءم به وارتد، كما صنع العرنيون وغيرهم[5].

ومنهـم من قال: من النـاس من هو ضعيـف الإيـمان، لم يدخل الإيمان قلبه، ولم تخالطه بشاشته، بل دخــل فيــه إما خــوفاً، وإما عادةً، على وجه لا يثبت عند المحن[6].

وجميع هذه العبارات تشرح حالة طائفة من الناس إنما دخلت في الدين والتزمت شرائعه في حين كانت الدائرة له، وفي حين كان معه الخصب والنصر والرخاء، وهي حالة تدفع الكثير من الناس إلى الدخول في هذا الحِمَى المبارك.

ومن كان هذا إيمانه فمصيره مرتبط - ضرورة - بالظروف المحيطة به، والتزامه بالشريعة مرتهن بما يجري حوله، وحَمْله للرسالة إنما يكون بحسب الجو العام، فإنْ وجد خيراً وسعة ورخاء وإقبالاً من الناس ازداد في التزامه وحمله للرسالة، وأما إنْ وقع في أتون الامتحانات والاختبارات المختلفة فإنه لن يطول به الأمد وسينقلب على وجهه ويرتد عن رسالته.

وهذه معضلة الإيمان المادي واستقامة الرخاء... إنها تجعل إيمانك مضطرباً قابلاً للانهيار، وتجعل رسالتك في مهب الريح تقلِّبها كيف اتجهتْ. والذين يقومون بعمل الحسابات المادية لإيمانهم يريدون الفوز بأحسن المكاسب هم في الحقيقة قد وقعوا في أفدح الخسائر، لأنهم لم يسْلَموا من منغصات العيش في الدنيا ولم يفوزوا بالجنة في الآخرة؛ تلك التي وعدها الله الصادقين من أهل الإيمان، الذين عبدوا الله في السراء والضراء واستقاموا على شريعته في حين إقبال الناس على الدين أفواجاً فرحين وفي حين إقبالهم على الدين فرادى خائفين، لذلك قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْـخُسْرَانُ الْـمُبِينُ} [الحج: ١١].

وهذا الإيمان المشروط بالرخاء والسعة والنصرة والتمكين ورغد العيش لا يحبه الله ولا يرضاه، لأنه لم يكن عن صدق في القلب؛ وإنما أدَّاه إليه الاتجاه العام للناس والظروف العامة والخاصة، فهو ليس بإيمانٍ تامٍّ، لذلك قال القرطبي: «وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلاً بكليته»[7]. والبغوي يختصر حقيقة الإيمان الصحيح في هذا السياق فيقول: «ولو عبدوا الله في الشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف»[8].

وهذا ما أوضحته آية العنكبوت، فقد قال تعالى: {أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: ٠١]. فإنَّ الحقيقة التي لا مِراء فيها أنَّ الله تعالى يعلم حقيقة ادعائهم الإيمان ويعلم ما تخفيه قلوبهم، قال ابن عطية: «أيْ لو كان يقيناً تامّاً وإسلاماً خالصاً لما توقفوا ساعة، ولركبوا كل هوْل إلى هجرتهم ودار نبيهم»[9].

إنَّ استقامة الشدة والفداء وقت المحنة والثبات عند البلاء هي علامة الإيمان الصادق وإعلان البراءة من النفاق الكامن في النفوس، عافانا الله وإياكم.

وكما أنَّ بعض الناس يتساقط في زمن الشدائد والفتنة في الدين، فإنه في الوقت نفسه هناك من يبحث في موضوع (الدين) وسؤالاته، فربما أفضت هذه الأسئلة والمعالجات إلى دخول بعضٍ آخرين في (الدين)؛ إذ يغلب على هذه الأزمنة حَراك فكري حول (الدين).

وهنا يستشرف بعض الناس غلبة الإسلام رغم ما يواجهه أهله من الابتلاء والفتنة، بناء على معطيات الواقع المحسوس، فيفضلون الدخول في (الدين) لا بقلوبهم وإنما بحساباتهم المادية، وقد أبان الله سبحانه هذا الأمر في قوله: {وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت: 10]. قال ابن عاشور: «بيَّن الله تعالى نيتهم في إظهارهم الإسلام بأنهم جعلوا إظهار الإسلام عدة لما يتوقع من نصر المسلمين بأخارة، فيجدون أنفسهم متعرضين لفوائد ذلك النصر. وهذا يدل على أنَّ هذه الآية نزلت بقرب الهجرة من مكة، حين دخل الناس في الإسلام وكان أمره في ازدياد»[10].

إنَّ محمداً قد قُتل!

ثمة موطن آخر من المواطن التي تتزلزل فيها القلوب وتضطرب فيها الفِكَر، هو أرض المعركة وساعة المواجهة، حيث التقاء الجمعين والتحام الصفين، حيث يمتحن إيمان القلوب وتفتن رباطة الجأش. وقد وصف الله تعالى الناس في مثل هذه المواطن فقال سبحانه: {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْـحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا 10 هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11].

ومن أعظم المواقف المزلزلة التي مرَّت بالنبي صلى الله عليه وسلم  وأصحابه الكرام ما وقع في غزوة أحد، من انكشاف المسلمين ووقوعهم تحت سيوف قريش، قال البغوي[11]: فلما رأى خالد بن الوليد قِلَّةَ الرماة، واشتغال المسلمين بالغنيمة، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  من خلْفهم فهزموهم وقتلوهم.

وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم  فذبَّ مصعب بن عمير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقتله ابن قمئة، وهو يرى أنه قَتل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع إلى المشركين وقال: إني قتلتُ محمَّداً. وصاح صارخٌ: ألا إنَّ محمداً قد قُتل. فانكفأ الناس، وفشا فيهم أنَّ محمداً قد قُتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: إنْ كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول!

ولامهم النبي صلى الله عليه وسلم  على الفرار، فقالوا: يا نبي الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا الخبر بأنك قد قُتلت فرعبتْ قلوبنا، فولينا مدبرين! فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

في تلك الساعة وقع إرجاف فكري مفاده أنَّ دين الإسلام الذي جاء به محمد دين باطل؛ إذ لو كان حقاً ما قُتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد أطلق المنافقون هذه المقولة.

ووقع ارتباك عسكري، لأنَّ مقتل القائد وشيوع ذلك بين الصفوف هو إعلانٌ بانتهاء المعركة وهزيمة المسلمين، ولذلك ألقى بعض الناس سلاحهم وتوقفوا.

ووقع اضطراب نفسي؛ إذ دب الخوف في قلوب الناس وشعروا باقتراب الحتوف والإبادة، ولذلك التمس بعضهم الأمان بوساطة المنافق المنسحب أصلاً: عبد الله بن سلول.

إنه زلزال إيماني، ونفوس بشرية ما زالت تتلقى التوجيه والتربية. فنزلت الآية الكريمة تعاتب من حصل منه ذلك من المسلمين. قال الطبري: «قال الله تعالى لأصحاب محمد؛ يعاتبهم على ما كان منهم من الهلع والجزع ومُقبِّحاً إليهم انصراف من انصرف منهم عن عدوهم وانهزامه عنهم: {أَفَإن مَّاتَ} محمد، لانقضاء مدة أجله، أو قتَلَه عدوٌ {أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} يقول: فلنْ يوهن ذلك عزةَ الله ولا سلطانه، ولا يدخل بذلك نقصٌ في ملكه، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} يقول: وسيثيب الله مَن شكَره على توفيقه وهدايته إياه لدينه، بثبوته على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم  إنْ هو مات أو قتل، واستقامته على منهاجه، وتمسكه بدينه وملَّته بعده»[12]. فتأمل هذا التقريع والعتاب على الرجوع بعد الإقدام، والقعود بعد السلوك! وتأمل وصف الله الثابتين بالشاكرين، لأنَّ التمسك بالهداية والثبات على المنهاج ضرب من ضروب الشكر لله، وهذا متكرر في القرآن.

وفي واقع الأمر فإنَّ المنافقين هيؤوا الأسباب لتلك الزلزلة، وذلك بأنْ انسحب رأس النفاق عبد الله بن سلول بثلث الجيش - وهي نسبة عالية - قبل بدء المعركة، مخذلاً الناس بخطأ الحرب خارج المدينة وبغيرها من التبريرات، حتى أوهن عزائم بعض الناس وكادوا ينسحبون خوفاً من الحرب، فسجَّل القرآن ذلك في قوله تعالى: {إذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْـمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122]. قال الطبري: «وكان همُّهما الذي هما به من الفشل: الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبي بن سلول بمن معه؛ جُبناً منهم، من غير شك منهم في الإسلام ولا نفاق، فعصمهم الله مما همُّوا به من ذلك، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  لوجهه الذي مضى له، وتركوا عبد الله بن أبي بن سلول والمنافقين معه، فأثنى الله عز وجل عليهما بثبوتهما على الحق، وأخبر أنه وليُّهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار»[13].

فالذي وقع من الطائفتين هو خوف وجبن، لا شك ولا نفاق، ومع ذلك فقد أثبت الله وجود هذه الحالة في المؤمنين، وجعل المحك فيها ما يترتب عليها من سلوك وتصرفات، فإذا انجرَّ أهل الخوف والجبن إلى ما تدعوهم إليه نفوسهم من الانسحاب والقعود، واستجابوا إلى دعوات المنافقين إلى الانسحاب والتخاذل فقد هلكوا ووقعوا في المحظور، وهو الانقلاب على الأعقاب، أما إذا لم يستسلموا لتلك المشاعر والخلجات، وقاوموها بالتوكل على الله والاستجابة لأمر الله والإقدام على المخاطر والتضحية في سبيل الله وعدم الانصياع لدعوات المنافقين فقد نجحوا في امتحان الإيمان واستحقوا ولاية الله ونصره وثنائه ومحبته.

وهذه الحال النفسية يتكرر وقوعها، وهي سياق طبيعي؛ إنما يمتحن الإنسان على ما يترتب عليها من سلوك، وهذا ما ينبغي للمؤمن أنْ يحاذره، وأنْ يقوي قلبه، وأنْ يدعو الله تعالى بالثبات كما هو الحال عند الصالحين. قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ 146 وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ 147 فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148]. فرغم ما وقع عليهم من قتل أنبيائهم وقتل كثير من محاربيهم إلا أنهم ثابتون على جسارتهم وبأسهم، متسلحون بالدعاء بالتثبيت والنصر.

استجابة المنهَكين

حين فاخر حصين بن حمام الفزاري بشجاعته وصبره قال:

ولسنا على الأعقاب تُدمى كلومنـــــا   ***   ولكنْ على أقدامنا تقطرُ الدمــــــا

تأخــــــرتُ أستبْقي الحياةَ، فلم أجدْ   ***   لنفسي حياةً مثلَ أنْ أتقدمـــــــــا

ولستُ بمبتــــــــــــــاعِ الحياةِ بسُبَّـةٍ   ***   ولا مبتغٍ من رهبةِ الموت سُلَّمــــا

وهو معنى بطولي مفاده الثبات ورباطة الجأش، وعدم الفرار عند المواجهة والثبات رغم الجراح الدامية، وقد جاء به الإسلام وأعلى من شأن أهله، وذم الذين ينهزمون حين البأس ووقت المواجهة وزمن الابتلاء؛ كما مرَّ معك.

وحين اشتدت المحنة في غزوة أحد وأُذيع على مسمع الناس أنَّ محمداً قد قُتل وعلا صوت الإرجاف... في تلك الأثناء ثبتت طائفة من المسلمين، وعزموا على الاستمرار في القتال حتى النهاية، منهم: أنس بن النضر الذي قال: «يا قوم! إنْ كان قُتل محمد؛ فإنَّ ربَّ محمد لم يُقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وموتوا على ما مات عليه»[14]. وصبر على بأس الحرب حتى قُتل، رضي الله عنه.

ومنهم سعد بن الربيع رضي الله عنه العقبي البدري الشهيد، الذي صمد في المعركة حتى مات على إثر إصابته في أحد، فقال في آخر ما قاله: «فأبلِغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  عني السلام، وقل له: إنَّ سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته. وأبلِغ قومك عني السلام، وقل لهم: إنَّ سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إنْ خلص إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم  ومنكم عين تطرف»[15].

أما الذين أحاطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم  وفدوه بأرواحهم ووقوه بأجسادهم فكثير يتقدمهم في الفضل طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص في جماعة... إنه للصمود والصبر، وإنها للمجالدة والمصابرة، وإنه لحمل الأرواح على الأكف بذلاً في سبيل الله.

ومن أعجب صور ذلك الصمود والصبر ما وقع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  مِن استجابتهم لنداء النبي صلى الله عليه وسلم  بعد انتهاء المعركة - وهم مثخنون بالجراح - لملاحقة جيش المشركين في حمراء الأسد، قال البغوي: «وذلك أنَّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أُحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا، وقالوا: لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم، ارجعوا فاستأصلوهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم  فأراد أنْ يُرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، مع ما بهم من الجرح والقرح الذي أصابهم يوم أحد، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يخرجنَّ معنا أحد إلا مَن حضر يومنا بالأمس.

وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  مُرهِباً للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة، وأنَّ الذي أصابهم لم يوهنهم؛ فينصرفوا. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  في أصحابه رضي الله عنهم حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال»[16]. فأثنى الله على هذا الموقف العظيم، وسجَّل القرآن هذا الصمود العجيب تخليداً وتربية للمسلمين، فقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]. قال ابن عطية: «وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم، ولكنْ تجلَّدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد، فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية، ومدحهم لصبرهم، وأخبرهم تعالى أنَّ الأجر العظيم قد تحصل لهم بهذه الفعلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها غزوة»[17].

ولقد آتت التربية القرآنية أُكُلها في صقل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  فحين مات صلى الله عليه وسلم  اضطربت المدينة ونجم النفاق، وحاول بعض المنافقين أنْ يدخل في إرجاف الناس وإبطال الدين من هذا المدخل، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه - وهو أولى الناس بمثل هذه المواقف - فقال: «من كان يعبد محمداً فإنَّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حي لا يموت»[18]. وتلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. قال السعدي: «وفي هذه الآية أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر أبي بكر، وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم  لأنهم هم سادات الشاكرين»[19].

إنَّ هذه المواقف العظيمة لا تتأتى إلا بتربية عظيمة، تربية تصنع الرجال وتقوي العزائم وتثبِّت القلوب بإذن الله، ولذلك يجب على أهل الإسلام أنْ يعتنوا بهذا النوع من التربية، لأنَّ الظروف التي يتزعزع فيها الدين وأهله وتتزلزل فيها قلوب المؤمنين لا يحزمها إلا الصناديد من الرجال ولا يحفظ فيها الدين إلا الأشداء الأقوياء، وقد أشار السعدي إلى هذا المعنى فقال: «وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أنْ يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه فَقْدُ رئيس ولو عظُم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أُناسٍ من أهل الكفاءة فيه؛ إذا فُقد أحدهم قام به غيره، وأنْ يكون عموم المؤمنين قصدُهم إقامة دين الله والجهاد عنه بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصدٌ في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم»[20].

وتلك من أيام الصبر التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم  كما في حديث أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «فإنَّ من ورائكم أيام الصبر! الصبر فيه مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله» [21].

والله المسؤول أنْ يرزقنا الثبات وقت المدلهمات وألا يفتننا عن ديننـا فنهـلك، وأنْ يجعلنا من الشاكرين الثابتين الصابرين.


 


[1] أخرجه أحمد، حـ 6958.

[2] تفسير السعدي: 3/1305.

[3] معالم التنزيل: 3/203.

[4] تفسير الطبري: 18/575.

[5] المحرر الوجيز: 7/18.

[6] تفسير السعدي: 3/1092.

[7] تفسير القرطبي: 12/18.

[8] معالم التنزيل: 3/204.

[9] المحرر الوجيز: 7/558.

[10] التحرير والتنوير: 20/217.

[11] معالم التنزيل: 1/427.

[12] تفسير الطبري 7/252 (بتصرف).

[13] تفسير الطبري: 7/168.

[14] معالم التنزيل: 1/428.

[15] سيرة ابن هشام: 2/95.

[16] معالم التنزيل: 1/449.

[17] المحرر الوجيز: 2/697.

[18] سيرة ابن هشام: 2/565.

[19] تفسير السعدي: 1/248.

[20] تفسير السعدي: 1/248.

[21] أخرجه أبو داود: 4/123، حـ 4341.

_____________________________________________________

الكاتب: بقلم/ فايز الزهراني