ألا إن نصر الله قريب

أنه ينبغي لنا أن نشيع روح التفاؤل، في مثل هذه الأوقات القاسية، وأن ننبذ اليأس عنا مكاناً قصياً، وأن نوقن بأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، وهذا منهج أرشدنا إليه نبينا - صلى الله عليه وسلم -

  • التصنيفات: قضايا إسلامية - - آفاق الشريعة -

إن الناظر في أحوال العالم الإسلامي اليوم، يجد من المصائب التي حلت بأمة الإسلام ما ينقبض له صدره، ويتفطَّر له فؤاده.


وهذا الهم علامة تدل على إيمان المتحلِّي به، وصدق ولائه للمسلمين؛ إلا أن بعض أولئك الغيورين، ربما أشجاه الحُزْنُ بغُصَّته؛ لكثرة ما يسمع من هاتيك الخطوب وتلك النوازل، فساوره شيءٌ من اليأس من ظهور الدين الحق على الدين كله، وهذا موطئ منكرٌ في الدين، ومغْمَزٌ يَبْهَجُ له العدو ويفرح.


وفي هذا المقال ذكرٌ لبعض ما يجب التعامل به في مثل هذه النوازل؛ فأقول:

أولاً: لنعلم يقيناً لا شك فيه، أن الله - سبحانه - ناصرٌ دينه والمؤمنين، كما قال - تعالى -: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].


لكنَّ الله - سبحانه - يؤخر النصر؛ ابتلاءً لعباده، وتمحيصاً لهم، كما قال - تعالى -: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] وقال: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، وقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].


أما الظن بخلاف ذلك، فهو من الظن السَّوْءِ، كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه، ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالةً مستقرةً، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله"[1].


ويقول العلامة عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله -: "واليوم وإن كان المسلمون مصابين بضعف شديد، والأعداء يتربصون بهم الدوائر، هذه الحالة أوجدت من بينهم أناساً ضعيفي الإيمان، ضعيفي الرأي والقوة والشجاعة، يتشاءمون بأن الأمل في رفعة الإسلام قد ضاع، وأن المسلمين إلى ذهاب واضمحلال، فهؤلاء قد غلطوا أشد غلط؛ فإن هذا الضعف عارضٌ له أسباب، وبالسعي في زوال أسبابه تعود صحة الإسلام كما كانت، وتعود إليه قوته التي فقدها منذ أجيال، وما ضعف المسلمون إلا لأنهم خالفوا كتاب ربهم، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتنكَّبوا السنن الكونية التي جعلها الله - بحكمته - مادة حياة الأمم ورقيها في هذه الحياة، فإذا رجعوا إلى ما مهَّده لهم دينهم، وإلى تعاليمه النافعة، وإرشاداته العالية؛ فإنهم لابد أن يصلوا إلى الغاية كلها، أو بعضها. وهذا المذهب المهين - مذهب التشاؤم - لا يرتضيه الإسلام؛ بل يحذر منه أشد تحذير، ويبين للناس أن النجاح مأمول، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6]... فليتق الله هؤلاء المتشائمون، وليعلموا أن المسلمين أقرب الأمم إلى النجاح الحقيقي والرقي الصحيح)[2].


ثانياً: أنه ينبغي لنا أن نشيع روح التفاؤل، في مثل هذه الأوقات القاسية، وأن ننبذ اليأس عنا مكاناً قصياً، وأن نوقن بأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، وهذا منهج أرشدنا إليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهنا موقفان يبينان ذلك:

 


الموقف الأول:

حين أتى خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مكروب النفس، محزون الصدر، قلق الخاطر، من شدة ما لاقى من المشركين، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - متوسداً بُرْدَةً في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! فقعد وهو محمرٌّ وجهه، فقال: «لقد كان مَن قبلكم ليمشَّط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرِق رأسه، فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون»[3].
فتأمل كيف فاجأ النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بهذا الخبر الذي تتهلل له الوجوه بشراً، وتتدفق سروراً، في ظل هذا الضغط الرهيب من المشركين، الذي جعل بعض النفوس تستبطئ النصر.

 


الموقف الثاني:

ثم شرع ابن الأثير يذكر تفاصيلها، وكان مما قال: "وهؤلاء - يعني: التتار- لم يُبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعمَّ ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح...".


ثم ذكر ابن الأثير من أفعال التتار أشياء مروعة، وكان مما قال: "ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذِّب بها، من الخوف الذي ألقى الله - سبحانه وتعالى - في قلوب الناس منهم، حتى قيل: إن الرجل الواحد منهم - أي: التتار- كان يدخل القرية أو الدرب، وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتلهم به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح. فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً، فقتله به!. و حكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا: ليكتِّف بعضكم بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلتُ لهم: هذا واحد، فلِمَ لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف، فقلتُ: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله أن يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير". ومن أراد الزيادة، فليرجع إلى الكتاب المذكور.


ثالثاً: كما ينبغي لنا إذا أردنا النصر الحقيقي - ألا نكتفي بمجرد الأماني والتخيلات، والتفاؤل غير المصحوب بالعمل؛ بل لابد أن نفعل الأسباب، ونطرق الباب، فذلك سبيل النصر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وإن أمة الإسلام لن تنتصر ما لم تأخذ بأسباب النصر، فتقيم شعائر الإسلام ظاهرة وباطنة، وتخلع رِبْقة الترف الفكري والاجتماعي من عقول أبنائها، ويكون عند أبنائها الاستعداد التام للتضحية؛ لأجل هذا الدين، كلٌّ حسب استطاعته وقدرته.

 

ومع إيقاننا بأن البلاء حتمي؛ وأن هذه النوازل من أقدار الله؛ فإنه لا يعني هذا أن نتواكل ونستسلم للذل والهوان، كلا؛ بل ندافع أقدار الله بأقداره، ونستفيد من هذه الأحداث، بأن نعود إلى ربنا، ونجدِّد إيماننا، ونَصْدق في توبتنا؛ وهذه من حِكَم البلاء، وقد قال ربنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42].

وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، وقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].


حين كان المسلمون يحفرون الخندق، وهم يترقبون عدواً قادماً عليهم، يتربص بهم الدوائر، قد أوعدهم، وألَّب عليهم الناس، فلا يدرون في أي لحظة ينقض عليهم، وفي هذه الأثناء عرضت لهم - وهم يحفرون الخندق - صخرة لا تأخذ فيها المعاول،قال: فشكوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع ثوبه، ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول، فقال: «بسم الله». فضرب ضربةً، فكسر ثلث الحجر، وقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا»!. ثم قال: «بسم الله» وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا»!. ثم قال: «بسم الله» وضرب ضربةً أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا»![4]. 

فانظر إلى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - كيف ينقل أصحابه من هذا العناء والرَّهَق، إلى السعة والدعة، بمجرد أحرف يسيرة، فيثوب إلى أحدهم نشاطه في عمله، كأنما يتفيأ ظلال الراحة.

إن الأمة بحاجة إلى أن يشاع فيها التفاؤل الإيجابي، الذي يساهم في تجاوز المرحلة التي تمرُّ بها اليوم، مما يشدُّ من عَضُدها، ويثبِّت أقدامها في مواجهة أشرس الأعداء، وأقوى الخصوم؛ ليتحقق لها النصر بإذن الله.

إن اليأس لا يصنع شيئاً سوى سقوط الهمة، وتخاذل العزم، والرضا بالتخلف والدُّون.

ولقد مرَّ في تاريخ الإسلام حوادث عظيمة نكبت بها الأمة، وتجاوزتها بسلام، ولو ذهبنا نستقري التاريخ؛ لطال بنا المقام، وإليكم إحدى هذه الحوادث، نتبين من خلالها أن أمة الإسلام تمرض، لكنها لا تموت، ألا وهي غزو التتار بلاد الإسلام، وأُفسح المجال للمؤرخ الكبير أبي الحسن ابن الأثير ليحدثنا في كتابه "الكامل"[5]عن هذه الحادثة، فيقول: "لقد بقيتُ عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجْلاً وأُؤخر أخرى، فمَنْ الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومَنْ الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها، وكنتُ نسياً منسياً

إلا أني حثَّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمَّت الخلائق، وخصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله - سبحانه وتعالى - آدم - وإلى الآن - لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها".

 

إن النصر مدَّخرٌ للذين يَؤمُّون معالي الأمور، فلا يرضون بالهون صاحباً، ولا يقيمون على المذلة، ولا تنحني رؤوسهم للعاصفة، وهو مدَّخرٌ لأولئك للذين لا يخامرهم ريب في نصر الله، ولا تعترضهم فيه شبهة يأس.


وليس الله - سبحانه - عاجزاً عن نصرة الحق بغير فعل الأسباب، وهو الذي يقول للشيء: "كن" فيكون، ولكن هكذا اقتضت مشيئته وحكمته، وهكذا تجري سنَّته.


ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو إمام المتوكلين، كان أوعى الناس لهذه السنَّة، وهذا خبرٌ واحدٌ يدل على أخذه - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب:

 

يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاث مئة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القِبْلَة، ثم مدَّ يديه، فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض». فما زال يهتف بربه، مادّاً يديه، مستقبلاً القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله - عزَّ وجل -: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [6][الأنفال: 9]. والشاهد منه: أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم، وهو الموعود من ربه؛ إما بالنصر والغنيمة من قريش، أو الاستيلاء على عِير قريش التي تحمل تجارتهم، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الآية. [الأنفال: 7] - فعل الأسباب، وألحَّ على ربه بالدعاء؛ فجاءه النصر.


رابعاً: والقلب في ذروة الشدة يتلقَّن درساً لا ينساه، ويستجلي قنواتٍ إصلاحية ربما لا تكون لولا تلك الشدة، ويكون عنده من الإقبال على الله، والتألُّه له ما لا يكون في غير تلك الشدة، قال - تعالى -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وعندها يأتي النصر، وتنكشف الغمَّة، كما قال - تعالى -: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} [يوسف: 110]. ألا وإن مما يُستدفع به هذا البلاء، أن يراجع كلٌّ منا نفسه عن تقصيره في جنب الله، فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، قال - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى: 30]، وقال: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّوم: 41]. وتأمل رحمة الله بعباده؛ إذ قال: (بعض)، ولم يقل: (كل)!!.


وقال - سبحانه -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].


وقد عاتب الله أصحاب نبيه عن استفسارهم عن سبب هزيمتهم في غزوة أحد، فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].

 


خامساً: كما ينبغي للمسلم عند وقوع هذه الأزمات أن يكون بعيد النظر؛ فلا يستبطئ النصر، ولا يستعجل ثمراته، متأسِّياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وهذا موقفٌ من مواقفه في ذلك:

 

سألته عائشة - رضي الله عنها - يوماً: هل أتى عليك يومٌ كان أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيتُ، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئتَ فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشَبَيْن»؟.


فماذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
هل قال: هذه فرصةٌ تُهْتَبل، ونصرٌ كبيرٌ بلا مؤونة؟
أو قال: هذه ساعةٌ أنتقم فيها من أعدائي؟ وأشفي فيها فؤادي؟


كلا! لم يقل ذلك كلَّه، إنما قال: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً»!![7]. سبحان الله، أيُّ صبر في سبيل الدعوة أجلُّ من هذا الصبر؟! تقرع الأحزان ساحته - صلى الله عليه وسلم - فيبددها بإيمانه، فترتد حسيرة، كأن لم تكن.

 

 

إنه الإيمان الراسخ رسوخ الجبال الراسية، والجَنَان الثابت الموقن بنصر الله.


فلم تكن تلك الشدائد - مع قسوتها - تحول بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين استشراف المستقبل، وإحسان الظن بالله.


ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن غاية المؤمن أن يعمل، لا أن يرى النصر؛ بل قد تراه الأجيال بعده، وخير شاهد على ذلك قصة الغلام والساحر[8]؛ حيث أسلم الناس لما ضحَّى الغلام بنفسه؛ فوقع النصر بعد موته، وكان ما فعل تثبيتاً للناس في أن ما دعاهم إليه هو الحق، ووقع ما يخشاه الملك من إيمان الناس إيماناً حقيقياً؛ أُدخلوا لأجله في الأخاديد المضرمة بالنيران، فصبروا واقتحموا.


وقال خَبَّاب - رضي الله عنه -: "هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نريد وجه الله؛ فوقع أجرنا على الله، فمنَّا مَنْ مضى، لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عُمَيْر: قُتل يوم أحد، وترك نَمِرَةً، فكنَّا إذا غطَّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطَّينا رجليه بدا رأسه، فأمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه، ونجعل على رِجْلَيْه شيئاً من إِذْخِر! ومنَّا مَنْ أينعت له ثمرته، فهو يَهْدِبُها"[9].


اللهم إنك تشاهدنا في سرَّائنا وضرائنا، وتطَّلع على ضمائرنا، وتعلم مبلَغ بصائرنا، أسرارنا لك مكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، نسألك برحمتك التي وسعت كل شيءٍ أن تهب لنا من لدنك نصراً عزيزاً، وفتحاً مبيناً، وعزّاً ظاهراً، وعيشاً نقيّاً، ومردّاً غير مخزٍ ولا فاضح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 


[1] زاد المعاد: 3 / 204.

[2] منقول بتصرف يسير من رسالة له بعنوان: " وجوب التعاون بين المسلمين "، ص 11.

[3] أخرجه البخاري: ( 3852).

[4] أخرجه أحمد 38 / 133 والنسائي في الكبرى (8858) من حديث البَرَاء بن عازب.

[5] الكامل 12 / 358 - 500 - 501.

[6] أخرجه مسلم: (1763).

[7] أخرجه البخاري: (3059)، ومسلم: (1795).

[8] أخرجها مسلم: (3005).

[9] أخرجه البخاري (3897) ومسلم (940).

__________________________________________________________
الكاتب: د. صالح بن فريح البهلال