الحديث في النهضة وتحريف الشريعة

منذ 2011-10-01

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}..



تحت عنوان: (هل تتمخض الثورات العربية عن النهضة الحضارية؟) مقال نشر بصحيفة: المصريون بتاريخ: (20/ 9/ 2011م).
انتقد الدكتور عبد العزيز قاسم قول (الشيخ اللامع) -على حد تعبيره- سلمان العودة بأن: الثورات العربية تحمل مشروعَ النهضة، وادعى أن هذا قول الحالمين ذوي الأبراج العاجية، ولم يكتفي بنقد الدكتور سلمان بل تعدى ذلك بنقد أولئك المعولين على الثورات العربية في تحقيق نهضة حضارية، مدعيًا بأنها لن تلبث طويلًا حتى يقتل أبناؤها أبناءها، وأن هذا شأن كل الثورات، يطعن الحالمين بغدٍ مشرق تحمله الجماهير العربية، ويغفل عن أن هذه الثورات لها خصوصية في التكوين، فهي شعبية تشي بوعي جماهيري، وخصوصية في السياق العالمي، فقد جاءت والقوة الوحيدة في العالم تغوص في رمال الأيام، ويطعنها غير قليل من المغلوبين، وعما قريبٍ -بحول الله وقوته- نشارك في نعيها، والتفكه بأخبارها!

ولم يكتفي الدكتور عبد العزيز قاسم بنقض (الشيخ اللامع) والثورات العربية، بل راح يتعدى على التاريخ المعاصر يقول: "فشلت المشاريع النهضوية لأنها كانت نخبوية لم تتحول لواقع، وأنها كانت ردود أفعال للصدمة التي تعرض لها الجيل الأول، وأنها كانت تقليداً للغرب". ثم يعرض الحل على لسان (هاشم صالح) بقوله: "النهضة العربية لن تنجح إلا إذا قدمنا تأويلًا جديدًا لموروثنا العقائدي، كما فعل فلاسفة التنوير الأوروبي مع تراثهم المسيحي، وهذا ما لا نتجرأ عليه حتى الآن خوفًا من عواقبه". يتبنى هذا الرأي الموغل في التطرف والانحراف، وهو الإسلامي بزعمه! ويأخذ بيد الدكتور اللامع (سلمان العودة، ومحمد الأحمري، وأمثالهم..) ويورده هذا المسلك، ينفخ ويشجع، ليخوض بالقوم هذه المخاضة الوعرة، ثم يعود لتعليل فشل المشاريع النهضوية السابقة بتعدي آخر على التاريخ المعاصر، يقول: "فشلت المشاريع النهضوية لأنها قُدمت من علمانيين ولم تقدم من إسلاميين". ثم يختم بالنداء بمشروع نهضوي برؤية إسلامية يقوم به.

وفي مقال الدكتور ثمة عدد من النقاط المهمة لابد من إبرازها والوقوف معها:
أولها: أن الدكتور (عبد العزيز قاسم) مشروع مستقل مختلف عن الدكتور (سلمان العودة) أو بالأحرى مرحلة متطورة بعد مرحلة الدكتور سلمان العودة، تسللت للساحة الفكرية من تحت عباءة سلمان العودة، وتستعد لأخذ الزمام بالتعاون مع (صناع الكوابيس) وهي مرحلة تتبنى أطروحات علمانية صريحة باسم الشريعة، وأهم معالم هذه المرحلة هي تفعيل الشاذين فكريًا للتشويش على الجادين ومزاحمتهم، تمهيدًا لإقصائهم، وكذا العمل على تطوير الصف السلفي بتبني المنفتحين من جيل الشباب.

ثانيها: غير صحيح أن المشاريع النهضوية كانت نخبوية لم تنزل للجماهير، بل نزلت للجماهير، وسيطر العلمانيون على تفاصيل الحياة من قرنين من الزمان إلى يومنا هذا، سيطروا على الحكم بكامله، وسيطروا على التعليم، وسيطروا على الإعلام، وسيطروا على المشاريع الخدمية المتصلة بالجماهير، بل كانت لهم أعمال خدمية في القرى حين بدأت العلمانية تنتشر، فلم تكن أطروحات نخبوية، بل كانت مشاريع عملية غطت مناحي الحياة، وغير صحيح أن المشاريع النهضوية قدمها فقط علمانيون، بل جل المشاريع النهضوية خرجت من تحت عمائم المشايخ. وعلى سبيل المثال: (رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الإيراني، ومحمد عبده) وهذه محطات ثلاث متتالية امتدت على ظهر قرن من الزمان، فلا أدري كيف تجرأ عبد العزيز قاسم على القول بأن المشاريع النهضوية فقط كانت علمانية، ومن ثم ينادي على (العودة، والأحمري) بأن يقبلان ويُقدمان!

ثالثها: ما دعا إليه عبد العزيز قاسم من إعادة قراءة الشريعة الإسلامية من جديد، على غرار ما فعله مفكرو أوروبا في عصر ما قبل الثورات الأوربية، وادعى أن ذلك هو الطريق الوحيد للحصول على النهضة، دعا إليه أحد أوائل المتحدثين بالنهضة وهو: (خير الدين التونسي) فقد كان ينادي بأننا لا نستطيع التقدم سوى بنقل منظومة الغرب كاملة وليس فقط العلوم التقنية، وأن هذا يستلزم إعادة قراءة الشريعة الإسلامية من جديد، وقدم هو بعضًا من هذه القراءة الجديدة للشريعة الإسلامية في كتابه (أقوم المسالك).

بل إن أدعياء النهضة كلهم تجرؤوا على الشريعة الإسلامية، وحاولوا إعادة قراءتها من جديد وفي شتى المجالات، انتشروا في جنباتها، وتسلط كل واحدٍ منهم على جزء منها، وراح يعيد قراءته قاسم أمين في مجال المرأة وكان يتحدث باسم الدين وخاصة في كتابه الأول: (تحرير المرأة) (وطه حسين، وعلي عبد الرازق، وغيرهم...) كان الكل يتحدث باسم الدين يريد النهضة، وكان الكل ينطلق من قاعدة: إعادة قراءة الشريعة الإسلامية من جديد قراءة عصرية.

رابعها: ليس عند من ينادي عليهم الدكتور قاسم جديدًا، فما في يد الدكتور (سلمان العودة، والأحمري) وُجد في يد غيرهم من الذين من قبلهم، بل ووجد في يد آخرين من زملائهم، مما يشي بأن ثمة من يوزع عليهم وهو الفاعل الحقيقي!

خامسها: قضية النهضة يُنادَى بها من قرنين من الزمان، وسلكت الأمة كل طريق حديث طلبًا للنهضة، وكانت النتيجة في كل مرة تحريف في الشريعة الإسلامية ولا نهضة، وتفسير ذلك: بأن كل من تحدث عن النهضة جعل من إعادة قراءة الشريعة الإسلامية وسيلة للنهضة -حتى عبد العزيز قاسم هذا- فنادى بالنهضة ثم انصرف إلى الشريعة الإسلامية يعيد قراءتها بدعوى أن هذا هو طريق النهضة، فمثلًا: قاسم أمين قال: لا نهضة إلا بحرية المرأة، ثم راح يُشر عن (تحرير المرأة) وغرق في هذا، وما أثمر للأمة نهضة بل عريًا وتفسخًا أغضب ربها، فنزع البركة من سعيها.

سادسها: اتفق دارسوا النفس الإنسانية من علماء النفس، وفصيلة البرمجة اللغوية العصبية، والتربويون على: أن الهدف الرئيسي للإنسان في هذه الحياة هو السعادة التي هي الراحة والطمأنينة، وهي غير اللذة وغير النجاح، وليس أبدًا النهضة التي هي (التقدم التقني) وما يستجلبه، فإن التقدم التقني ومفرزاته -عند التحقيق- لم تثمر سعادة للبشرية بل أثمرت حروبًا وفقرًا، ومرضًا بما لم يكن موجودًا في العصور السابقة، فالنهضة التي ينشدونها -تقدم تقني وإفرازاته- لا تحقق الغاية التي ينشدها كل إنسان في هذه الحياة.

سابعها: كيف الطريق لنهضة حقيقة؟ كيف الطريق لنهضة تحقق للإنسان السعادة، والرخاء في هذه الحياة؟
النهضة بهذا المفهوم ثمرة لعبادة الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. وقال الله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً} [الجن: 16]. فعلى أولئك الذين يريدون النهضة أن ينصرفوا إلى عبادة الله وتعبيد الناس لله، فإن ثمة عبادة وعابدين فثمة النهضة الحقيقية، وهذه حقيقة تاريخية وواقع نعيشه، فلم تسعد البشرية بأحد كما سعدت بالإسلام، تحقق لها الأمن والأمان، والرخاء وراحة البال، والفوز بالجنة إن شاء الله، وقد جربت الأمة في واقعها المعاصر دروب شتى ولم تصل من خلالها لشيء، والثمرة التي حصل عليها مَن نُدعى لتقليدهم ليست هي التي نرجوها كمسلمين أو كبشر.

سلكت الأمة كل طريق طلبًا للرقي والتقدم (النهضة) وبعد قرنين من الزمان تبين أن الحديث في النهضة -في الغالب- ما هو إلا وسيلة من وسائل تحريف الشريعة الإسلامية.
 
  • 2
  • 0
  • 1,498

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً