هل كل منتحر في النار؟

خالد عبد المنعم الرفاعي

فلا نشهد لكل منتحر أنه في النار؛ ولكن نقول كبيرة الانتحار سبب مقتضٍ للعذاب، ولكن يتوقف على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.

  • التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الدار الآخرة -
السؤال:

هل كل منتحر في النار

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ

فالانتحار محض تعجيل لعذاب الله، وهو من كبائر الذنوب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المنتحر يعاقب بمثل ما قتل به نفسه؛ كما رواه أحمد عن ثابت بن الضحاك الأنصاري مرفوعًا: "من قتل نفسه بشيء عذبه الله به في نار جهنم"، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا* وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29، 30].
فالمنتحر يدفعه يأسه من رحمة الله، وقنوطه مِن الفرَج إلى تعجل الوقوع في العذاب الأليم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحديدةٍ؛ فَحَديدتُه يَتَوَجَّأُ بِها في بَطنِه في نَارِ جهنَّم خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فهُو يتحسَّاهُ فِي نَارِ جهنَّم خالِدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا، ومَنْ تردَّى من جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فهو يتردَّى في نَارِ جهنَّم خالدًا مُخلَّدًا فيها أبدًا"؛ متفق عليه، وقال الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "بادرني عبدي بنفسه حَرَّمتُ عليه الجنة"؛ رواه البخاري

فدلَّت هذه الأدلة وغيرها على أنَّ قَتْلَ المَرْءِ نَفْسَهُ سببٌ لِلخُلُودِ في نارِ جهنَّم - والعياذ بالله - وأنَّ عذابه يكون بنفس الوسيلة الَّتِي تَمَّ الانتِحارُ بِها، غير أنه مع كل هذا لا يقطع للمنتحر أنه في النار، ولكن يقال: المنتحر متوعد بالخلود في النار، وأنه أي الانتحار سبب في دخول النار، وقد حقق تلك المسألة العقدية أعني عدم القطع لأحد بدخول النار شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(12/ 482-484) فقال:

"والتحقيق أن يقال: الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعدوالوعيد، كما أن ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر لمحبط....  

فكذلك في موارد النزاع - أي الشهادة لمعين بالنار- فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأن مصائب الدنيا تكفر الذنوب، وأنه يقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، كما بين أن الصدقة يبطلها المن والأذى، وأن الربا يبطل العمل وأنه إنما يتقبل الله من المتقين؛ أي في ذلك العمل ونحو ذلك، فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة.

 وبهذا تبين أنا نشهد بأن {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، على الإطلاق والعموم، ولا نشهد لمعين أنه في النار؛ لأنا لا نعلم لحوق الوعيد له بعينه؛ لأن لحوق الوعيد بالمعين مشروط بشروط وانتفاء موانع، ونحن لا نعلم ثبوت الشروط وانتفاء الموانع في حقه، وفائدة الوعيد بيان أن هذا الذنب سبب مقتض لهذا العذاب، والسبب قد يقف تأثيره على وجود شرطه وانتفاء مانعه؛ يبين هذا: أنه قد ثبت: أن النبي صلى الله عليه وسلم "لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها"، وثبت عنه في صحيح البخاري عن عمر "أن رجلا كان يكثر شرب الخمر فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله"، فنهى عن لعن هذا المعين وهو مدمن خمر؛ لأنه يحب الله ورسوله وقد لعن شارب الخمر على العموم". اهـ.

وعليه؛ فلا نشهد لكل منتحر أنه في النار؛ ولكن نقول كبيرة الانتحار سبب مقتضٍ للعذاب، ولكن يتوقف على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع،، والله أعلم.